لبنان إلى أين؟

لبنان إلى أين؟

ربّما لم يعِ غالبيّة اللبنانيين الّذين اندفعوا إلى الشّوارع مطالبين بتحسين الوضعين الاقتصادي والسياسي في لبنان، فيما سمّي بثورة أو حراك 17 تشرين 2019 أنّ أمورهم المعيشيّة ستنحدر إلى الحال الّذي وصلت إليه اليوم، فبين تشرين الـ 2019 وتشرين 2022 سلسلة انحدارات، وخيبات اقتصاديّة، وأحداث سياسيّة، وأمنيّة، أوصلت اللبنانيين ليس إلى حافّة الفقر بل إلى عمق هاويته، حتّى بات اللبناني الّذي كان يشعر أنّ ما كان يعيشه قبل 2019، ولم يكن راضيًا عنه، كان رفاهية في العيش أنّى له أن يدركها من جديد.

في هذه السنوات الثلاث العجاف، تعاقبت على لبنان أزمات مدمّرة، ومتعدّدة الأوجه والمسارات، بدءًا من الانهيار الاقتصادي مرورًا بكوفيد 19 وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت في آب 2020واستمرّ الحبل على الجرّار من أزمة إلى أخرى وصولاً إلى ما يعانيه لبنان اليوم من فراغ رئاسي وحده الله يعلم ماذا يمكن أن تكون تداعياته على بلد منهك أصلاً. 

سبحة طويلة من الأزمات شكّلت الأزمة الاقتصاديّة خيطها الرّابط، وذلك بالنّظر إلى اتّصالها المباشر بحياة النّاس وأنماط عيشهم، وإلى استمراريّتها، وتصاعدها المضطرد، وقد صنّفالمرصد الاقتصادي اللبناني لربيع 2021 هذه الأزمة الاقتصادية والماليّة في لبنان ضمن أسوأ الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.. لقد انخفض النّاتج المحلّي الإجمالي الاسمي ممّا يقرب من 52 مليار دولار أمريكي في عام 2019 إلى ما يُقدّر بنحو 23.1 مليار دولار أمريكي عام 2021. كذلك فقد كان من نتيجة الانكماش الاقتصادي المطوّل أنانخفض الدخل المتاح بشكل لافت. كذلك انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 36.5٪ بين عامي 2019 و 2021 ، وبناء على هذه الأرقام وسواها أعاد البنك الدولي تصنيف لبنان كدولة ذات دخل متوسّط ​​منخفض، وكانت مصنّفة ضمن حالة الدّخل المتوسّط ​​الأعلى.

توقّف القطاع المصرفي، الذي اعتمد وبشكل غير رسمي ضوابط صارمة على رأس المال، عن الإقراض، وعن جذب الودائع. وبدلاً من ذلك تابع السّير في نظام دفع مجزأ يميّز بين الودائع القديمة بالدولار الأمريكي (قبل أكتوبر 2019) والحدّ الأدنى للتّدفقات الجديدة من “الدولارات الجديدة”. مخضعًا الودائع القديمة لخفض حادّ في المديونيّة من خلال “السّيولة” الفعليّة و”تخفيضات رأس المال” (حتى 85٪ على الودائع بالدولار). إنّ عبء التّعديل على الدّيون والتّقليل منها تراجعي للغاية، وهو يقع على عاتق المودعين الصّغار، والشّركات الصّغيرة والمتوسّطة (SME)كذلك فإنّ الانخفاض في متوسّط ​​الدّخل مقرونًا بالتّضخم المكوّنمن ثلاثة أرقام، والانخفاض الحادّ في قيمة العملة، كلّها أمور تحدّ بشكل كبير من القوّة الشّرائية. 

واقع الحال أنّ الآثار التّضخّمية هي عوامل ارتداديّة للغاية، وتؤثر بشكل غير متناسب على الفقراء والطبقة الوسطى وهاتانالطّبقتان تشكّلان الغالبيّة العظمى من أبناء الوطن، وبناء عليه فإنّالتّأثير الاجتماعي الوخيم، يمكن أن يصير كارثيًا بامتياز، إذ من المحتمل أن يصبح أكثر من نصف سكان البلاد تحت خط الفقر فعلاً لا قولاً، فقد ارتفعت نسبة البطالة من 11.4٪ في 2018-2019 إلى 29.6٪ في 2022. وشهد لبنان انهيارًا كبيرًا في الخدمات الأساسيّة، مدفوعًا بنضوب احتياطيات النقد الأجنبي منذ بداية الأزمة المعقّدة. الأمر الّذي أدّى إلى نقص حادّ في موادّ الوقود وإلى تعرّض الشّبكة الكهربائية الوطنية لأكثر من ثماني حالات انقطاع متواصل للكهرباء، حتّى بلغ متوسط ​​إمدادات الكهرباء العامّة يتراوح بين ساعتين وصفر تغذية يوميًّا. كذلك فقد أدّى النّقص في الوقود إلى إعاقة الوصول إلى الرعاية الصّحيّة والمياه النّظيفة ليطلّ شبح الكوليرا نتيجة لذلك، في الوقت الّذي يواجه فيه أصحاب متاجر الإمدادات الغذائية ومقدمو خدمات النّقل ومشغّلو شبكات الاتّصالات اضطرابات شديدة في سلاسل التوريد الخاصّة بهم. كذلك فقد عانى لبنان كبقيّة دول العالم من جائحة COVID-19 الّتي حصدت أرواحًا كثيرة، وأوقعت البلاد المرهقة أصلا تحت أعباء اقتصاديّة نتجت عن عمليّات الإغلاق المتقطّع وغيرها من التّدابيرالّتي اتّخذتها الحكومة للتّخفيف من تأثير الفيروس على كل من النّاس وعلى النظام الصّحي المترهّل. 

وكانّ كلّ ذلك لم يكن كافيًا حتّى حدث انفجار مرفأ بيروت الّذي، بالإضافة إلى آثاره التّدميريّة والمأساويّة، كانت له تداعيات على المستوى الوطني.

بعد الانفجار مباشرة، أطلقت مجموعة البنك الدّولي، بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تقييمًا سريعًا للأضرار والاحتياجات (RDNA) وذلك لتقدير تأثير الانفجار على السّكّان والأصول المادّيّة، وقد اتّبعت RDNA “نهج لبنان كله”، بمعنى إشراك السّلطات والمؤسّسات العامّة ومنظّمات المجتمع المدني في عمليّة تقييم الأضرار، لتجد، بعد التّقييم، أنّ قيمة الضّرر كانت في حدود 3.8 إلى 4.6 مليار دولار أمريكي، مع خسائر في التّدفّقات الماليّة من 2.9 إلى 3.5 مليار دولار أمريكي.

تاثّرت القطاعات الرئيسية الحيويّة للنمو من انفجار المرفأ بشكل كبير، ناهيك عن التّمويل والإسكان والسّياحة والتجارة. وحتى نهاية عام 2021 ، وصلت كلفة التّعافي وإعادة الإعمار إلى ما مجموعه 1.8 إلى 2.2 مليار دولار أمريكي. 

لعلّه من نافل القول إنّ تعافي لبنان وإعادة بنائه على أسس سليمة يتطلب خطّة طوارئ وإجراءات سريعة وحاسمة، خاصة فيمايتعلق بالإصلاح على المديين المتوسّط والبعيد، أمّا على المستوى القريب، فإنّ النّهوض بلبنان يتطلّب اعتماد وتنفيذ استراتيجية موثوقة وشاملة ومنسّقة للاستقرار المالي الكلي ضمن إطار متوسّط ​​المدى للمالية العامّة، وينبغي أن تستند هذه الاستراتيجية إلى:

أ- برنامج لإعادة هيكلة الدّيون من أجل تحقيق القدرة علىتحمّلها على المدى المتوسط.

ب- إعادة الهيكلة الشّاملة للقطاع المالي في سبيل استعادةالملاءة الماليّة للقطاع المصرفي. 

ج- وضع إطار جديد للسّياسة النّقدية يعيد الثّقة بسعر الصرف. 

د- التعديل المالي على مراحل بهدف استعادة الثقة بالسياسات الماليّة.

هـ- الإصلاحات المعزِّزة للنّموّ.

و- تعزيز الحماية الاجتماعية.

أمّا على المستوى المتوسّط فينبغي وضع بناء مؤسّسات أفضلعلى رأس سلّم الأولويّات، ناهيك عن الحكم الرشيد وبيئة أعمال مناسبة، إلى جانب إعادة الإعمار المادّي.

ومع كلّ تلك الإجراءات فإنّه لا يمكن للبنان أن يستغني عن المساعدات الدّوليّة، والاستثمارات الخاصّة، وذلك بالنّظر إلى حالة الإعسار التي يعيشها (النظام السيادي والمصرفي) وعدم وجود احتياطيات كافية من النقد الأجنبي.. أمّا فيما يتعلّق بحجم الاستثمارات والمساعدات وبسرعة تعبئتها فإنّ الأمر مرتبط بقدرة السّلطات والبرلمان اللبناني على العمل بسرعة لتحقيق الإصلاحات المالية، والاجتماعية، والحوكمة الّتي تشتد الحاجة إليها. وبدون ذلك، لا يمكن أن يتحقّق التّعافي وإعادة الإعمار بشكل مستدام ، وسيستمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في التّدهور.   

وبعد، فإنّنا مهما تكلّمنا وأسهبنا في الكلام عن الحالة السّيّئة التي ينزلق إليها هذا الوطن الجميل رغم كلّ شيء، فإنّنا نبقى عاجزين عن الإحاطة بكلّ الجوانب التي سبّبت هذا الانهيار على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، خاصّة وأنّ هذين المستويين كليهما مرتبطان بالمستوى السّياسي الّذي يعاني الأمرّين سواء بالنّسبة لارتهان الّذين يقودون العمليّة السّياسيّة لمصالحهم الشّخصيّة أو لناحية التّدخلات الخارجيّة إذ تتضارب مصالح الدّول الكبرى بما ينعكس تأزّمًا على بؤر الصّراع في العالم ولا شكّ فيأنّ لبنان واحدة منها.

لبنان إلى أين؟ يموت البشر وتبقى الأرض بانتظار من يستحقّها.. هذه الأرض ستبقى وينبغي أن ندفع ثمن استحقاقنا لها، وجزء كبير من هذا الاستحقاق يكمن في وعينا لحقيقة ما يدور حولنا، وفي ملامستنا لجراح بعضنا.. على اللبنانيين أن ينبذوا الطّائفيّة والمذهبيّة وأن يحبّوا بعضهم بصدق فلا تتطلّع فئة منهم إلى إلغاء وجود فئة أخرى.. ينبغي عليهم العمل لأجل إعادة إحياء لبنان النّموذج العالمي للعيش المشترك لئلاّ تقول فئة ذات يوم: قُتلت يوم قُتِل الثّور الأبيض.

قد يبدو ذلك صعبًا لا بل مستحيلاً في ظلّ الأوضاع الرّاهنة، لكنّ الرّهان على الصّمود يبقى قائمًا، خاصّة وأنّ لبنان وشعبه يحترفانه، فلطالما عانى هذا البلد الصّغير، ولطالما نهض من بعد المعاناة ومن يدري لعلّ الله يُحدِث من بعد ذلك أمرًا، فمن كان ليصدّق أنّ حربًا على أطراف أوروبا يمكنها أن تشكّل عاملاً ضاغطًا لترسيم حدودنا البحريّة والاستفادة من ثروات لنا قابعة في أعماق بحرنا.. من يدري فقد يكون في هذه الثروة خلاصنا.  

د. أحمد لقمان الزين
باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية