تنشر مجلة صباح الخير/البناء على حلقات من مذكرات الأمين الراحل صالح سوداح، كيف تعرف على الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد رحلة الشتات التي عاشها من ترشيحا في فلسطين
المحتلة الى بنت جبيل وصور في جنوب لبنان ثم الى مخيمات اللجوء في مدينة حلب ثم بيروت حيث تلقى
خبر اعدام زعيم الحزب أنطون سعادة عام 94.
حلقة الثانية
عكا 1948
بقلم صالح سوداح
واصل اتحاد الطلاب تحركات ونشاطات التي لقيت تجاوباً من الأهلين وأخذنا نلحظ ظهور السلاح وعمليات التدريب، إلا أحداً لم يوافق على تدريبنا
المعارك تشتعل هنا وهناك وهنالك والمنطقة الشمالية تشهد هدوء كاملاً رغم تحركات اليهود وتصرفاتهم ونسفهم لبعض الجسور الواقعة على نهر النعامين
دعا الاتحاد إلى اجتماع عام واقترحت مظاهرة للتنشيط فاذا بالشيوعيين يصرون على الدعوة لإسقاط البلدية واللجنة القومية.
دعوة مفاجئة لم نفهم لها سبباً ولم نرّ لها مبرراً فقاومناها وسقط الاقتراح الشيوعي سقوطاً ذريعاً كشف قلة عددهم. نجحت المظاهرة وكان من نتائجها أن اتخذت ترتيبات لمنع اليهود من تحريك الأسلحة عبر عكا، فأقيمت حواجز التفتيش المسلحة وشارك الطلاب في الحراسة
تزايدت الاشتباكات واقترب موعد رحيل بريطانيا، أبلغنا أن المدرسة ستقفل أبوابها قبل الموعد المقرر بشهر على الأقل، وبعد أيام طلب إلينا في القسم الداخلي أن نحزم امتعتنا ونعود إلى قرانا.
وصلت القرية مساءً ولقيت بعض أترابي من الأصدقاء والأقارب وتحدثنا عن إضراب في اليوم التالي. نجح الإضراب وأجير الطلاب تجار القرية على إغلاق متاجرهم. وانضم إليهم عدد من شباب القرية ورجالها وكان تجمع أمام البلدية وآخر أمام مركز الشرطة
أعلن عن دخول الجيوش العربية قبل عودتنا إلى قرانا وتتابعت أخبار المعارك وسقوط القرى والمدن. أخذت القرية في التسلح. تابعنا مسألة تدريبنا بإلحاح حتى اقتنع أحد ضباط جيش الإنقاذ فأمر بتدريبنا وأشركنا في الحراسة على خط النار عدة مرات
ترشيحا _ حلب
قاومت ترشيحا برجالها ومن جاءها من مجموعات جيش الإنقاذ وغيرهم وصدت عدداً من الهجمات وتعرضت للقصف الجوي والمدفعي مراراً. نزح البعض القليل عن القرية إلى لبنان، وانتاب العواطف مد ّوجزر
مرت الهدنة الأولى وأعلنت الثانية فتنفس الكثيرون الصعداء. فالقرية لن تسقط. ولكن الهدنة لم تصمد وتوالت الغارات الجوية وعمليات خرق وقف إطلاق النار وجاء بعدها الهجوم … وطالت المعركة … نزح الأهلون خارج القرية اتقاء للقصف وبقي المقاومون مواقعهم إلا أني رأيت جنوداً فرادى يتجهون شرقاً.
صباح اليوم التالي شهدت الطائرات وهي تقصف، تأملتها من حديقة جيراننا … اشتعلت النيران في بيت شرق القرية وعلا الصراخ من جهات عدة … عاد أبي وأخبرنا أن السوق قد دمر تقريباً … أربعة من أعمامه لاقوا مصرعهم وما زالوا تحت الأنقاض.
توجهنا إلى “البياض “… لم تعد الطائرات … أصوات الرصاص بعيدة لا تسمع … مزيد من المقاتلين يتجهون شرقاً … عدت ظهراً إلى القرية وشاهدت السوق المدمر بضعة أفراد يحاولون رفع الأنقاض وانتشال الضحايا … بعضهم يؤكد سماع أنين لم أسمعه … تجولت في السوق … وقادتني قدماي إلى الحي الغربي … وجدت حانوتا مفتوحاُ، دكان الدوفي … اشتريت قليلاً من قطع الحلقوم والبسكويت … حديث من في الدكان يغلب عليه التشاؤم غادرتهم إلى مقر إحدى سرايا جيش الإنقاذ فلم أجد أحداً …!! توجهت إلى خط النار وكان هناك أبو حسين سأل عن أهلي وأجلسني.
تجمعت السرية … الباقون لا يزيدون عن الثلاثين … حديثه إليهم مؤثر يستثير الحماسة ولكنه مليء بوعود قد لا تتحقق… يكثر الحديث عهد النجدات والاسناد ولأول مرة يتحدث عن الانسحاب
لم يكد ينتهي من حديثه حتى باشر العدو قصف أحد المواقع المكشوفة ” رويسة الكنيسة ” القذائف تتساقط بانتظام عجيب … تخلى الجنود عن قمة التلة وتمركزوا في سفحها انه الهجوم الأخير … قالها أبو حسين بهدوء غريب … والتفت إلى الجنود موجهاً بعض التعليمات … ثم طلب إلى الرحيل بإصرار. عدت باتجاه القرية … توقفت في أولها مرت الطائرات … وعادت … ولم تقصف القرية. علمت فيما بعد أنها قصفت الجسور القريبة من الحدود مع لبنان
ذهبت إلى البيت وألقيت فيه بما كان معي … ويممت شطر البياض … ألقيت نظرة من عل … فهالني المنظر … القرية هادئة كالمقبرة … لا أضواء ولا أصوات ولا شيء يتحرك، سوى امرأة عجوزة متجهة إلى بيتها … وحمار في ساحة الجامع العتيق … غربية هذه القرية عني … كدت أكرهها … هزني الخوف فواصلت مسيرتي شرقاً.
علمت في البياض أن أهلي قد اتجهوا شرقاً فتابعتهم وعند مدخل القرية المجاورة “سحماتا ” لقيت من أعرف سألته عنهم فأبلغني أنه لم يرهم رغم طول وقوفه حيث هو … لا بد أنهم سلكوا طريق الوعر “شقيف الزاغ ” الذي لا أعرفه دخلت سحماتا فاذا هي مقفزة لا أثر للحياة فيها … واصلت سيري في الظلام الدامس قاصداً الشارع المعبد وقبل أن أصله بقليل سمعت صوتاً قريباً … إنها امرأة … طلبت منها ماء فإذا بصوت أجش يقول: “روح دور على خالتك تسقيك” تابعت … لحقت بي الامرأة وبيدها أبريق من الفخار. شربت وشكرت … وما هي إلا خطوات حتى رأيت مجموعة من جنود جيش الإنقاذ … سألت عمن أعرف منهم، وإذا بأحدهم يصيح باسمي.
كان لقاء الجنود ودوداً متحفظاً … وضعوا أمامي بعض الطعام … لا أدري كم أكلت فقد نمت حتى منتصف الليل تقريباً … لأصحوا على جلبة وضوضاء.
العقيد …!! نعم العقيد مهدي بعينه يتمخطر ملتفاً بعباءته … دنوت منه … هو الآخر يتحدث عن الانسحاب لا أمل إذن … عدت إلى حيث كنت أقبع … حاول فريد تخفيف الوقع علي… سنأخذك معنا وستجد أهلك في لبنان
ساعات مضت … والسيارات تتجه شمالاً جاء دورنا وامتطينا إحداها وقبل أن نصل حدود لبنان سمعت فريد يصرخ:
أبو صالح!!
هل صالح معكم؟؟ كان صوت أبي
ساعة أو يزيد وإذا بنا في رميش … نام الجميع سوى أبي وأنا … البرد قارس … ولم نجد ما يمكن قوله … بقينا صامتين حتى أشرقت الشمس
يوم الحشر في ساحة بنت جبيل عشرات الآلاف في الساحة العامة يطلب الماء الذي ارتفعت أسعاره بصورة جنونية … أما فيما عدا ذلك فالحالة شبه طبيعية. السوق مفتوح وحركة البيع والشراء ناشطة … وسيارات تأتي لنقل الناس جنوباً
لقيت مجموعة من الجنود فطلبوا إلى العودة معهم إلى رميش لاستلام جهاز الراديو، وأمنه أبي فرافقتهم … خطرت لهم فكرة فطلبوا إلى العودة إلى بنت جبيل وجلب أهلي إلى المفرق ليوصلونا جميعاً إلى صور
ركبت إحدى السيارات المتجهة إلى بنت جبيل، وفجأة اندفع الصراخ … يهود … يهود … فارتد السائق بعنف ورفض الوقوف تلبية لرجائي ورجاء غيري حتى أجبر على ذلك … أوقفه الجنود وطلبوا إلينا تحميل ما لديهم من ذخائر ففعلنا … صعدوا معنا وأمروا السائق بالتوجه إلى جويا، وهناك أنزلنا.
علمنا فيما بعد أن اليهود لم يكونوا يهوداً … انما هم جنود متراجعون ولكن الصرخة بعثت الرعب في النفوس ودب الهلع
دققت بسيارة تحمل بعض أهل البلد من جويا إلى صور فرافقتهم … وهناك قضينا ليلة في بيت كان يقيم فيه أحد الذين نزحوا مبكراً، مائة وخمسون بين رجل وامرأة وطفل حشروا في غرفتين وصالة … حديث الكبار كان عن المخيمات!! وعن استقبال الحكومات … وتوزيع بعض الأغذية …ألخ
صباح اليوم التالي توجهت مع الآخرين إلى مكان التجمع … وما أن وصلت حتى ترجل أبي من سيارة كبيرة ومعه كل أفراد العائلة وجهاز الراديو … أبلغته ما حصل وأخذنا ننتظر، وتتأمل قطاراً واقفاً على مقربه … الجموع تتزايد وكذلك اللغط.
رجال الدرك يتوجهون نحونا بأعداد كبيرة … ما الأمر؟! طلبوا إلينا الصعود إلى القطار. إلى أين؟ لا أحد يجيب. صعدنا
واضح أن القطار مخصص لنقل المواشي فبقاياها ما زالت في أرض العربة والروائح العفنة تنبعث منها … وليس في العربة كرسي واحد أو أي أثاث آخر
حاول البعض المقاومة فإنهال عليهم الدرك ضرباً وأجبروهم على الصعود. قلت في نفسي نعم ما فعل أبي فقد كفانا مؤونة الإهانة.