أحاطت بهذا البحث ظروف غريبة تستحق أن تروى بحد ذاتها نظراً إلى ما تكشف عنه من الظواهر الإعلامية والسياسية، إذ وقعت سلسلة من الأحداث جعلت البحث يتكوّن على شكله المُعدّل هذا بعد مروره بتغييرات عدة. فقد أعددت مقالاً للتعليق على موضوع نُشر في أحد المواقع الإلكترونية في تشرين الثاني سنة 2022، لكنني أوقفت توزيعه بناء على نصيحة رفيق عزيز تربطه علاقة مع الكاتب الذي ربما كان يجهل ما يكتب. وما هي إلا أيام معدودات حتى وجدت نفسي أمام موضوع آخر مماثل، منشور على الموقع ذاته. قررت تغيير الصيغة السابقة لمقالي، وانتهاج أسلوب نقدي يتناول الكاتبين والموضوعين والموقع الذي استضافهما. وبينما كنت أضع اللمسات النهائية على الرد، مرّ معي على موقع مختلف مقال يتناغم مع المقالين الأخيرين… فأصبحت متأكداً من أن أقلام هؤلاء الكتبة تستسقي من منبع واحد، وتنطلق من خلفية إيديولوجية واحدة، وتهدف إلى غاية واحدة: التصويب على أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه.
وعلى هذا الأساس إرتأيت أن يدور النقاش حول المسائل التي يثيرها هؤلاء الكتبة، ويعتبرونها “نقاط ضعف” في الفكر القومي الاجتماعي. ولا يعني هذا عدم التطرق إلى خلفياتهم، بل على العكس يجب إخضاعها للمجهر النقدي لأنها هي التي تتحكم بمواقفهم من سعاده. مخططنا الأولي يقوم على تخصيص مقال لكل مسألة. ومع أننا نستبعد حدوث التغيير بين ليلة وضحاها، فنحن نستهدف القطاع الأوسع من القراء. إضافة إلى تزويد القوميين الاجتماعيين بالمعلومات التفصيلية بوصفها آداة في العمل الإذاعي القومي. وسنبدأ في الحلقة الأولى عرض ما حدث خلال الفترة الماضية، ثم ننتقل إلى المسائل المحددة، واحدة بعد أخرى.
موقع “فسحة”
في تشرين الأول الماضي، لفت الرفيق (ع. ش.) نظري إلى مقال منشور على موقع “فسحة” الإلكتروني، عنوانه “أنطون سعاده والقومية السورية بعدسة ما بعد استعمارية” للكاتب العراقي موسى الشديدي. وأضاف الرفيق العزيز يقول إن المقال يتضمن بعض النقاط الإشكالية التي تستحق النقاش والرد، واقترح عليّ أن أقوم أنا بهذه المهمة. وأرفق ملاحظته بإرسال رابط المقال حتى لا يكون عندي عذر للتباطؤ أو الإهمال. غير أنني تباطأت، للأسف، بسبب ظروف طارئة.
وكنت أعددت في شباط الماضي تعليقاً على ذلك المقال، وارتأيت أن أطلع الرفيق (ع. ش.) عليه للإستئناس برأيه طالما أنه كان المبادر. فعلّق بالقول إنه يفضل التعامل بإيجابية مع الكاتب العراقي الشاب الذي تعرّف إليه في إحدى المناسبات، إذ يمكن أن يكون جاهلاً بعض الأمور عن سعاده والحزب، وبالتالي علينا أن نوضح له أخطاءه من باب التوعية والتثقيف. لاقى هذا الرأي قبولاً مبدئياً، وأثنيت على رحابة صدر الرفيق. فأعدت صياغة مطلع الرد على الشكل التالي: “أبدأ بالتعبير عن ارتياحي الكبير لتنكب الباحثين الشباب، ومنهم الشديدي، مشقة الدراسة والبحث في فكر أنطون سعاده حتى ولو من الموقع النقيض. فهذا يؤكد أن هذا الجيل ما زال معنياً بتناول المسائل الحيوية في أمتنا، وبالتالي يضع علينا (نحن الجيل المخضرم) مسؤولية المشاركة في الحوار من أجل الوصول إلى أرضيات فكرية مشتركة، وفي الوقت نفسه تسديد بعض الثغرات وتصويب ما قد يكون وقع من مغالطات لأسباب ذاتية أو موضوعية. وأتمنى أن تساهم ملاحظاتي المذكورة أدناه في خلق “فسحة” من التفاعل البعيد عن المواقف المعلبة والأحكام المسبقة”.
كان ذلك في آذار الماضي. ولكن قبل أن أوزع مقالي كالعادة، تلقيت من الرفيق (أ. ع. م.) رابطاً إلى مقال أخر عن سعاده في الموقع نفسه. نُشر هذا المقال في 9 آذار 2019 وعنوانه “جراب الكردي” للكاتب إميل حبيبي من “فلسطين 48”! للوهلة الأولى اعتقدت أن هناك خطأ، ذلك أن حبيبي، الشيوعي عضو الكنيست الإسرائيلي، توفي سنة 1996… فمن أين هذه الكتابة؟ وبعد الاطلاع تبيّن أن “فسحة”، الذي يصف نفسه بأنه “موقع عرب 48″، أعاد نشر ترهات حبيبي وبذاءاته نقلاً عن مطبوعة محلية صادرت بتاريخ 28 آذار 1947. وهو يتناول عودة سعاده إلى الوطن في تلك الفترة. ومما يؤسف له أن حبيبي يستخدم أوسخ ما في القاموس الشيوعي الصهيوني من شتائم طراز الأربعينات: “هذا مصير المماسيخ من الفهارير”، “تقول جريدة “العمل” جريدة الكتائب اللبنانية أن الزعيم سُجن في الأرجنتين ثلاث مرات لثبوت تهمة الاختلاس عليه”… وغير ذلك من الافتراءات والأكاذيب.
ومع ذلك بقيتُ متردداً بين أن أكتب رداً موضوعياً قاسياً وحازماً، أو أن أحافظ على التعامل الإيجابي! لكن إطلاعي على مقال للصحافي اللبناني محمد أبي سمرا، نشره موقع “المدن” الجريدة الإلكترونية التي يرأس تحريرها ساطع نور الدين، جعلني أحسم موقفي لصالح الخيار الأوّل. فقد صدر مقال أبي سمرا بتاريخ 9 حزيران سنة 2022 بعنوان: “إنقلاب القوميين السوريين في مشاهد هزلية دامية سنة 1949”. وتبيّن لي أن هذا المقال سبق أن نُشر في جريدة “النهار” تاريخ 6 حزيران 2010 بعنوان “صور وحكايات عن مجتمع ساحل المتن الجنوبي في الأربعينات: قبضاي المرفأ وموظف “السنترال” ومستقبلو الزعيم أنطون سعاده في برج البراجنة”.
وهذا نموذج من كتابة أبي سمرا حيث “ينقل” عن أحدهم مشهد زيارة الزعيم إلى برج البراجنة: “جموع من أهالي البرج والمريجة المزارعين يتراكضون في الحقول بين رباعات الصبير ليصلوا إلى بيت السباعي. فخبر وصوله كان قد سرى بالتواتر بين الأهالي الذين سمع الراوي بعضهم يقول: “جاي الزعيم تبع القوميّة، جاي الزعيم”، فركض هو مع الراكضين لرؤيته. وقف أنطون سعاده على شرفة بيت خليل السباعي، مطلاً على مستقبليه المحتشدين في الأسفل بشراويلهم وطرابيشهم، وبينهم شبان وفتيان وأولاد ونسوة من الأهالي الفلاحين في معظمهم. وسرعان ما علا التصفيق ما أن بدأ سعاده خطبته، فأخذ العرق يسيل على وجهه. شاب التفت إلى آخر قائلاً: هل فهمت ما يقول الزعيم؟ لا، لا والله، جاوبه الشاب الآخر. فسأله الأول: لماذا تصفق، إذاً؟ فقال الثاني: كلهم يصفقون، فلماذا لا أصفق معهم ومثلهم؟ والراوي بدوره قال لشخص يقف إلى جانبه إنه لا يعلم من يكون هذا الزعيم، وسمع أنه طانيوس سعادة”.
وما كان لهذا المقال أن يستحق عناء الإشارة إليه لولا أنه مرتبط بمقالات أخرى مماثلة ما زالت متشبثة بحطام إيديولوجيا لفظها التاريخ، وتوحي بوجود يد خفية / معلنة تنفذ ما يصدر إليها من أوامر وتعليمات مشبوهة. إذن لم تعد المسألة أن كاتباً شاباً تناول الحزب وأخطأ، وعلينا نحن أن نستوعبه بإيجابية. بل هي حملة ممنهجة للتصويب على سعاده وعلى الحزب بين حين وآخر. لكن لماذا سعاده بالذات، ولماذا الفكر القومي الاجتماعي تحديداً؟ الإجابة تكمن في أن القوى المعادية لوحدة أمتنا أدركت أنه لم يعد في ساحة الصراع المصيري سوى الفكر القومي الاجتماعي. فقد وصلت النزعات العرقية والمذهبية والإقليمية إلى طريق مسدود، وباتت هي العقبة الكبرى أمام وعي السوريين لهويتهم القومية. ومن الطبيعي أن تكون الحملة عنيفة، لأن الرجعية تحارب حربها الأخيرة… حسب تعبير سعاده.
القوميون الاجتماعيون يتعاطون مع كل الناس من منطلق الثقة، لكن كما يقول سعاده “الثقة تُمتحن”. إذ ما معنى أن تُستعاد هذه الكتابة البذيئة المنحطة من سنة 1947 ليتم نشرها الآن بقضها وقضيضها دون أن يندى خجلاً جبين المشرفين على “عرب 48″؟ (ويتردد أن صاحب موقع “عرب 48” هو عزمي بشارة). وقد لا يكون الكاتب العراقي الشديدي منخرطاً في مثل هذه الحملة، إلا أن ذلك لا يعفيه من تلقي نصيبه من النقد، خصوصاً وأنه نثر في طيات مقاله مجموعة من الأخطاء التي يجب أن لا يقع فيها مَنْ يعتبر نفسه باحثاً وكاتباً. أما محمد أبي سمرا فيعرفه بعض من عمل معه بالصحافة اللبنانية، وهذا أمر آخر لحديث آخر في وقت آخر.
(يتبع)