في العشرينات استشرف الخطر الصهيوني وثورة الشرق وسقوط أميركا
120 سنة مرت على ولادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومازال انطون سعاده حاضراً في حركة النهضة من خلال فكره الرائد ومفاهيمه المتجددة ونهجه الثوري وخطته المناهضة للاستعمار والصهيونية والرجعية المتمثلة في القوى الطائفية- الاقطاعية – الرأسمالية.
بين النظرية والتطبيق
رغم انقضاء اكثر من قرن على ولادته، مازال الزعيم حاضراً في حركة الصراع القومي من أجل تحقيق الوحدة القومية وبناء النظام الجديد على قاعدة تحرير الارض وحرية الانسان وتوفير العدالة الاجتماعية والمشاركة الفعالة والخلاقة في تشييد صرح الانسانية.
مازال سعاده حاضراً لأنه باختصار امتلك معرفة الواقع الاجتماعي واستشرف المستقبل وتميز عن رجالات النهضة بأنه ألغى المسافة بين النظرية والتطبيق فكان قائداً وشهيدا لأنه مفكر عملي.
وفي أول مقال منشور له، وكان عمره 17 سنة، كانت كلماته «حتى الآن لم نر ما يدلنا على أن هنالك نهضة حقيقية نتفاءل بها وحتى الآن لم ينشأ سوى بعض أحزاب لخدمة الوطن لم تتجاوز خدمها إلقاء الخطب وإرسال البرقيات الاحتجاجية إلى جمعية الأمم، مما لا يجدي نفعاً إذ لم يكن هنالك أعمال تنفيذية»
]الاعمال الكاملة ج1 ص1
الخطر الصهيوني وحركة الصراع
ثم كرت سبحة كتاباته التي دلت على وعي مبكر بضرورة الوحدة القومية فنبه من أخطار التجزئة والتعصب الديني والمطامع الاستعمارية الاجنبية على أنواعها وأخطرها الصهيونية.
وبناء على هذه المعادلة أسس سعاده خطة المواجهة العملية التي تفرد بها تفكيراً وقيادة لشق طريق النهضة.
يقول سعاده في 1/10/1921: «يجب على السوريين، إذا كانوا يطمحون إلى الاستقلال والحرية كأمة حية، أن يتحدوا كالأمم الحية التي سبقتهم، فيعتمدون على افعالهم لا أقوالهم وعلى اتحادهم لا منازعاتهم وعلى أنفسهم لا غيرهم، لأن هذه هي الطريق الوحيدة إلى الحرية والاستقلال».[الأعمال الكاملة ج1 ص 13]
هذا التفكير العملي الذي اعتمده سعاده لإضرام «الثورة السورية» وتعبئة مكامن القوة في الأمة، لم يجرفه إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فقد ميز بين «السياسة الرجعية القائلة بإعداد القوة واتخاذها وسيلة لتنفيذ المطامح والمطامع» وبين «سياسة أخرى تقول بإلغاء المطامع وإبطال اعتداءات ومنع استعمال القوة إلا لتأييد الحق والحرية والعدل».
[الأعمال الكاملة ج1 ص69]
وكم نحن اليوم بحاجة إلى التأكيد على هذا المبدأ في مواجهة الغطرسة الأميركية التي تستعمل القوة المفرطة للهيمنة على العالم بينما نحن ما زلنا متمسكين بالمقاومة كخيار للدفاع عن حقنا القومي وتحقيق الحرية والعدالة لكل الأمم من دون هيمنة أو استفراد أو استكبار.
سقوط الولايات المتحدة
وهذا ما استشرفه سعاده في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان «سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي».
وهذا المقال الذي يحاكي الراهن جاء فيه بأن الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وبسائر الدول الغربية لأن الولايات المتحدة «لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد..[الأعمال الكاملة ج1 ص 98]
وكما استشرف سعاده «سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي» استشرف أيضاً «أن العالم سائر إلى الاشتراكية بسرعة القطار المستعجل» وتوقع «انتشار المبادئ الاشتراكية انتشاراً عظيماً… لتخليص العالم من حروب المطامع والاهواء وإنقاذ الأمم من كابوس أصحاب رؤوس الأموال». وتوقع سعاده في حال انتصار «الاشتراكية المعتدلة» في أوروبا: «تغيير تاريخ العالم» وتحول أوروبا من حال التنازع والحروب إلى حال التفاهم على «المبادئ» وحل العقد والمشاكل «وهي الخطة الوحيدة التي يجب على أوروبا اتباعها لإبقاء سيف الحرب في غمده».[الاعمال الكاملة ج1 ص103
وفي مقالة أخرى كتبها في «اليوم» الدمشقية بتاريخ 26/10/1931 حلل سعاده العلاقات بين الولايات المتحدة و أوروبا «وانقسام المصالح العالمية انقساما لا يعود بالخير العام. إن من أكبر العوامل التي حدت بحكماء السياسة الأوروبية أن يحاولوا الوصول إلى نوع من الاتحاد الأوروبي وجود مصالح أميركية مستقلة تزاحم المصالح الأوروبية…ولكن شؤون العالم الاقتصادية أصبحت اليوم مشتبكة بعضها ببعض اشتباكا يجعل حالة قسم من العالم يؤثر في حالة قسم أخر مهما بعدت المسافة».
[الاعمال الكاملة ج1ص271]
تطور إنساني متجدد
إن حركة التاريخ كما فهمها سعاده من خلال استقرائه للعلاقات الدولية والتنازع بين الأمم على المصالح، هي حركة يسيرها الصراع باتجاه تطور إنساني متجدد ومستمر لا نهاية له، كما يحاول أن يصور فوكوياما بنظرية فوقية تريد اقفال التاريخ على الحقبة الأميركية.
التاريخ هو حركة صراع،ومن خلال تفكيره العملي أدرك سعاده أن نهضة الأمة وإحقاق الحق والمشاركة الفعلية في عملية الصراع لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المقاومة والثورة واستعمال القوة. إن فهم «فلسفة القوة» على حد تعبير سعاده هو الطريق لإثبات حق الأمة في الحياة.
قوة المعرفة
وهكذا أيضاً استشرف سعاده بأن القوة هي القول الفصل في عملية الصراع، وبان القوة لم تعد مقتصرة على الجوانب المادية من اقتصادية وعسكرية وغيرها بل اصبحت تشمل قوة الفكر والعلم والمعرفة.
وقد خصص الفيلسوف الامريكي الفن توفلر كتابه المؤثر حول «تحول السلطة » مركزا على المعنى الجديد للسلطة، هو أن المعرفة هي القوة في هذا العصر بعد أن كانت القوة «تنبع من فوهة البندقية» كما أن القوة كانت في مراحل أخرى تعتبر أن «المال يتكلم». قيل بان السلطة هي استباق، هي استشراف، هي توقع، وبهذا المعنى كان سعاده مفكراً «رؤيوياً»، امتلك منهجاً واقعيا عمليا قادرا على التحليل الموضوعي والاستنتاج المطابق والمواكب لحركة التاريخ.
عرف سعاده كيف يكون ردا على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل وهكذا عرف من أين يبدأ ومن اين تنطلق النهضة وحركة التغيير فقال في مقال نشره في «المجلة»بتاريخ 1/4/1933 مايلي: «وأول مايجب أن نبدأ به هو أن نحول التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئا بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا الى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه ….العمل للخير العام في ظل السلام والحرية…. أقول تفكير عملي مجموعي لأجعل منه مايقابل التفكير العملي الفردي » ثم دعا الشبيبة السورية «أن تبتدئ في العمل الاصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي..»
[الاعمال الكاملة ج1ص39]
هذه باختصار بعض معالم استشرافات سعاده وحصرتها بكتاباته الاولى ماقبل تأسيس الحزب مابين 1921-1933، والتي تجعل منه مفكراً عملياً بامتياز صاحب رؤية مازالت واقعية اليوم ومنارة للغد. لذلك بعد 120 سنة من ولادته مازال سعاده حاضراً وفاعلاً بينما آخرون يتصدرون الصفوف الامامية ويمثلون على خشبة المسرح وهم غائبون عن ضمير الأمة وعن ساحة الصراع.