يطل الاول من اَذار هذه السنة والامة تمر بمرحلة من أكثر المراحل تعقيدا في تاريخها. ففي مختلف الكيانات معاناة قاسية نتيجة اوضاع اقتصادية ضاغطة من جهة ونتيجة عقم الحياة السياسية ولا ديموقراطية الانظمة الحاكمة وتفشي ثقافة الفساد في كل مفصل من مفاصل الحياة؛ هذا بالإضافة لتكالب القوى الاستعمارية العالمية في العمل بخبث واصرار على تمزيق الوحدة المجتمعية في هذه الكيانات والعمل على افقارها تمهيدا لتركعيها من اجل القبول بما لم يكن القبول به ممكنا لو كانت بكامل قوتها وعافيتها.
اما على صعيد القوى الشعبية من منظمات واحزاب فهي ليست في أفضل حال، اذ هي تعاني بدورها من معظم ما يعاني منه المجتمع. وبينما يفترض ان يكون دورها الفعلي والحقيقي هو العمل على نهضته واحداث التغيير المرتجى فيه على جميع الصعد، اضحت في مكان اخر بعيدة عن القضية التي نشأت اصلا من اجلها، وبعيدة عن الشعب التي كانت اصلا للتعبير عن مصالحه.
ولكن، برغم هذه الظروف القاسية والخانقة، نرى ضؤا في اخر نفق المعاناة. وليس غريبا او مفاجئا ان يبزغ هذا الضوء من حيث بزغ، اي من فلسطين المغتصبة والجريحة والتي تكاد تكون يتيمة في غياب او تغييب القوة الحاضنة لنضال شعبها والتي كانت لتنطلق، في ظروف مختلفة، من داخل بيئتها الطبيعية وليس من خارج هذه البيئة، دون ان يعني ذلك بحال من الاحوال انكار الدور الذي تتنكب له الجمهورية الاسلامية في إيران والتنويه به. ولكن هو تسجيل لواقع يؤشر الى مدى هشاشة وترهل جسد الامة وتغييب روحها الجهادية الاصيلة.
لقد شكل ” طوفان الاقصى ” منذ انطلاقته في السابع من تشرين الاول هذا الضوء الذي هلَّ على الامة من جنوبها فأحدث زلزالا هز اركان الكيان الغاصب ومازالت ارتداداته تسمع في غير مكان من العالم محدثة اثرا غير مسبوق في الرأي العام العالمي. وهو زلزال تهلل له حناجر الاحرار في العالم، اما الخائفون على وجودهم والجبناء والمتواطئون فترتعد فرائصهم ويلوذون، في أحسن الاحوال، بالصمت، وفي أكثر الاحيان بالدس الرخيص والخبيث.
فكيف يمكن ان نرى “طوفان الاقصى” من خلال فهمنا لفجر النهضة ومن خلال ايماننا الراسخ بأن سعادة، بما شكل من امل وبما خط من طريق للنهضة والتحرير وبما وضع من تعاليم ومبادئ وفلسفة، هو الحل ولا حل سواه؟
أطلق سعادة فيما أطلق بعض العبارات التي تجاوزت البعد اللفظي الى كونها تشكل في ذاتها دستور حياة هويتها الجهاد ومشروعها نهضة الامة ورفاه وتقدم الشعب. يقول سعادة في زمن مضى وهو ما يصح في الزمن الحاضر وفي كل زمن ” ان ازمنة مليئة بالصعاب والمحن تمر على الامم الحية فلا يكون لها انقاذ منها الا بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة “. ويقول في مكان اخر ” ان فيكم قوة لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ”. وفي هذه المحنة التي تمر بها الامة كم نحن بحاجة للبطولة المؤمنة؟ وكم حري بنا ان نكون هذه القوة الفاعلة التي تغير مجرى التاريخ، بل تكتب تاريخا جديدا مسطرا بالعز والفخار.
في خطابه لم يكن سعادة ليتوجه للقوميين فقط، وان كانوا هم اوائل المتلقين لكلماته وتوجيهاته. سعادة خاطب الامة جمعاء ولم يحدد فئة من الشعب. فهو من الامة وهو للامة. هكذا يجب ان نفهم سعادة بشمولية النهضة وامتداد أثر النهضة على الامة باتساعها واحتضانها لجميع ابنائها.
بهذا المعنى المتقدم نفهم “طوفان الاقصى ” وجميع “طوفانات” الخير والعز في بلادنا. ففي الذكرى الثانية والتسعين لولادة فجر النهضة القومية المباركة ننظر الى كل انتفاضات شعبنا والى كل مقاوماته والى جميع بطولاته كأنما هي واحدة من تمظهر البطولة المؤمنة في شعبنا وأحدي مظاهر القوة عندما تفعل وتتجسد في عمل مقاوم من اجل خير الامة وعزها.
واذ نحتفل بفجر النهضة في اذار نستعيد ما قاله سعادة إثر عودته من مغتربه القسري في ال 47 اذ خاطب القوميين بقوله ” عودوا الى ساح الجهاد “. لقد أيقن ساعده بثاقب نظره، مؤكدا ومركزا على ذلك في خطابه، ان هوية الحزب هي الجهاد. وهو جهاد بمختلف عناوينه، جهاد ضد العدو الخارجي وجهاد ضد كل
ما يعيق بناء الانسان الجديد والمجتمع الجديد ركيزة النهضة واساسها المتين.
وعود على بدء: ربما كان من ابلغ الدروس التي نستخرجها من الحدث الزلزال الذي تمثل في “طوفان الاقصى”، ان في الامة قوى حية متى فعلت غيرت مجرى التاريخ، وان الامة تزخر بالطاقات والامكانيات، وفيها منبع للبطولة بل للبطولات، وهي لطالما اثبتت نفسها في كل مفصل تاريخي اجتازته الامة طوال تاريخها الطويل. وعلى هذا وانطلاقا من تصدر الفعل المقاوم للمشهد العام، وما تركه من اثار اعادت المسألة الفلسطينية الى واجهة الاحداث، وفي مناسبة ذكرى انطلاق فجر النهضة القومية، اقول وكلي ثقة بأن الطريق التي وضع اولى خطواتها ورسم معالمها باعث النهضة ثم عمدها بدمه الزكي ستبقى هي الدليل لأحرار الامة باستعادة حريتها وتحقيق وحدتها. وان اي عمل مقاوم هو مدماك يضاف الى مسيرة التحرير التي نبنيها بجهود ونضالات جميع القوى الحية المؤمنة بحقها والواثقة بقدراتها والعاملة لتفعيل هذه القدرات الى الحد الذي يمكنها من التصدي لجميع التحديات.