العالم يتغير – 1 –

العالم يتغير – 1 –

العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا وتداعياتها على اوروبا  

يعيش العالم حالة حرب متأججة توقدها الولايات المتحدةالامريكية في كل ساحات العالم من اوكرانيا الى كوسوفوالى شمال افريقيا والشرق الاوسط الى بحر الصينوتايوان، لادراكها والغرب الاطلسي ان هيمنتهما تتآكلونفوذهما يتراجع في العديد من مناطق العالم،بسببفشل النيوليبرالية ، والصعود الصيني، واليقظةالجيوسياسة الروسية، وصعود حلفائهما دول البريكسومنظمة شنقهاي للامن والتعاون ،الذين باتوا يزاحمونامريكا  وحلفائها تكنولوجيا واقتصاديا وعسكريا علىنقاط الصدام الجيوبوليتيكي في العالم وعلى رسم نظامعالمي تعددي جديد بديل عن نظام الاحادية القطبية الذيترسخ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واورث العالم دماراوحروبا وازمات لا يزال يعاني ويلاتها  حتى الانفكانلابد لامريكا من العمل على إعادة تدوير الهيمنة الغربيةبقيادتها، بما يضمن استمرار سيطرتها على مراكز الثروةفي العالم، ويضعف روسيا والصين ويجعلهما في مرتبةأدني، وهذا يتطلب ترويضا وإرغاما للمجتمع الدولي؛يدفع نحو تحقيق “الهدف الجيواستراتيجي” للحفاظعلى الهيمنة الأمريكية والغربيةوما الحرب في أوكرانياوتصعيد التوترات مع الصين وإيران وامتنا إلا وسائللتحقيق هذا الهدف.

سنتطرق في هذا المقال الى تداعيات الحرب الروسية على اوروبا.

– اوكرانيا وإغلاق الخيارات في وجه موسكو

رغم تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابهعام 2007 ضمن مؤتمر ميونخ حول السياسة الأمنية، أنتوسع حلف الناتو في أوروبا الشرقية يمثل خطرا علىاستقرار النظام الدولي، ويقلل التفاهم بين القوى العظمي،ويؤجج التوترات العسكرية ويزيد من احتمالاتالمواجهة.الا ان امريكا والاطلسي  لم يلتفتا للمخاوفالاستراتيجية لروسيا من توسع الناتو في دول الاتحادالسوفيتي سابقا، والإغلاق الأمريكي المقصود لأبوابالخيارات الدبلوماسية في وجه روسيا ،فكان طبيعيا أنيؤدي هذا التجاهل الى أن تُقدِم موسكو على قرار الحربفي أوكرانيا مهما كان خطيرا؛ فمن أجل صيانة الامنالقومي الروسي واعادة توحيد (نوفوروسياوعودتهاكقطب منافس في النظام العالمي التعددي الجديد ، يبرراستعداد الرئيس بوتين للسير في هذا الطريقالخطيرالذي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق المجد أو يقود إلىالهلاك.

لقد قرأ عدد من الخبراء الغربيين، على رأسهم “هنريكيسنجر” هذا التحذير بجدية، وعبروا عن مخاوفهم منالتهور بمحاصرة روسيا بالتوسع في فنائها الخلفي فيأوروبا الشرقية وأوكرانيا، ولكن صناع القرار من النخبةالأمريكية لم يهتموا لذلك.ومنذ أن أطاحت الثورة البرتقاليةبقيادةيكتوريا نولند مساعدة وزيرخارجية امريكاللشؤون الاوروبية سابقا بحكومة “فيكتوريانوكوفيتش، عام 2014، وتشكيل نظامٌ اوكراني موالٍلأمريكا والغرب تسلمهزيلينسكي، وتزايد دعم أوكرانيابالأسلحة الغربية؛ ولد هذا الدعم القناعة لدى موسكو بأنما يجري هو مقدمة لتطويق روسيا، بانتظار تهيئةالظروفٌ لغزوها ، والسيطرة على أكثر المناطق الحيويةفيما يسمى قلب العالم.

اطلق الرئيس بوتين العملية العسكرية الروسية الخاصةفي أوكرانيا مدركا منذ البدء انها ليست حرب تقليدية بينروسيا واوكرانيا ، فقط؛ لكنها حرب كونية تخوضها روسيامع الاطلسي وامريكا،ساحتها اوكرانيا ،وهي حرب متعددةالأوجه والاهداف؛ تشمل الحرب الاقتصادية والطاقوية ،والهجمات السيبرانية، والحرب الإعلامية والنفسية عبرمواقع التواصل ، ووسائل الإعلام المختلفة.

لقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية كل قدراتها علىالإرغام، مستغلة دعمها التسليحي والمالي لاوكرانيا ونظام ألعقوبات الاقتصادية والمالية؛ لفرض عقوباتعلى روسيا، زاد قسوتها وتطرفها مشاركة الحلفاءالأوربيين فيها،من خلال اثارة نوبة من هستيريا التصعيدضد روسيا،ويمكن القول إن النخب الحاكمة في الولاياتالمتحدة والغرب، أطلقت الرصاص عمدا وبقصد علىمجتمعاتها والمجتمع الدولي، عبر عقوبات اقتصاديةومالية، قاسية متطرفة، فرضتها على موسكوبهدفسحق العملة الروسية “الروبل، ودفع الاقتصاد الروسينحو الانهيار، وإحداث أزمة في الشارع الروسي؛ قد تؤديإلى إضعاف موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،وتفتح الطريق أمام بديل آخر لتولي السلطة.

ادركت روسيا ان ثمة فخ نصبته لها امريكا في اوكرانيامنذ 2014 ، واستمر الضغط الامريكي على المانيا لعدمالسماح بتشغيل نورث ستريم 2 بعد ان اكملته شركة غازبروم لتحرم روسيا من سوق اوروبا الغازي ، ودفعتالنازيون الجدد وكتائب ازوف للسيطرة على اوكرانيا بعدتشجيعها للدخول بحلف الناتولكن بوتين استغل لحظةهزيمة امريكا وخروجها المذل من افغانستان ، واستغلالوضع الاقتصادي المتهالك فيها بعد فشلها في التصديلجائحة كورونا والازمة البنيوية التي تعيشها والانقسامالمجتمعي الذي يؤشر الى احتمال وقوع حرب اهلية بعدالانتخابات النصفية فيها وفق توقع معظم الخبراءالاستراتيجيين الامريكيين.واستغل ركود الوضعالاقتصادي وبروز اليمين المتطرف والانقسامات التيتعيشها اوروبا والتي لا تختلف كثيرا عن وضع امريكا .  فحول بوتين الفخ الامريكي الى فخ نصبه هو لامريكاوالاطلسي لادراكه ان  اوروبا بحاجة ماسة لروسيا طاقوياوغير قادرة على تامين بديل لها عن الغاز والقمح والاسمدةالزراعية والمعادن النادرة التي تستوردها من روسيا . واطلق عمليته العسكرية في اوكرانيا بالتنسيق معحليفيه الاسترلتيجيين الصين وايران بعد رفع مستوىالعلاقة بينهما الى مستوى استراتيجي غير مسبوق عبراتفاقات شراكة استراتيجية معهما لمدة عشرين عاما، وبعدادخار فائض مالي قدره 650 مليار $ واحتياطي ذهببنفس القيمة ،وبعد الاتفاق مع الصين على نظام دفعالكتروني ونظام سويفت خاص بهما ،خارج النظامالامريكي، وبعد الاتفاق مع الصين والهند على استيعابكمية الغاز والنفط التي يبيعها الى اوروبا (باسعار تنافسية) في حال اوقف الضخ اليها جراء العقوبات.

ولان اوروبا تستورد 40%من طاقتها من روسيا ، هي الانفي مازق كبير خاصة على ابواب الشتاء ولا بديل كاف لهاعن الطاقة الروسية وبعد اتفاق وزراء المالية في مجموعةالسبع بالإجماع على تحديد سقف لأسعار إمدادات النفطوالغاز من روسيا،وتحذير المتحدث باسم الكرملين، دميتريبيسكوف، من تداعيات فرض مجموعة السبع (G7) سقفالسعر برميل النفط الروسي، وتاكيده إن هذه الخطوة ستؤدي إلى زعزعة استقرار السوق بشكل كبير خاصة اندول مجموعة “أوبك+” وكذلك الهند والصين لا تؤيد فكرةفرض سقف على سعر النفط من روسيا، اتى تفجير امريكا واوكرانيا انبوبي السيل الشمالي 1و2 في بحر البلطيق ليضع اوروبا امام مازق طاقوي كبير مما يهدد بتدميرسوق النفط العالمية بالكامل

ورغم تحذير بنكجي بي مورغان” من أن أسعارالنفط قد ترتفع إلى مستوى 380 دولارا للبرميل، إذا قررتروسيا الرد على المساعي الغربية لوضع سقف لسعرالنفط الروسي.وقال البنك الأمريكي في تقرير نشر فيوقت سابق، إن القيود على الأسعار قد تدفع روسيا لخفضإنتاجها النفطي بما يصل إلى 5 ملايين برميل يوميا دونالتسبب في أضرار جسيمة لاقتصادها، وهذا السيناريوالأكثر سوءا قد يدفع أسعار النفط إلى 380 دولاراللبرميل“.

ورغم  ان العقوبات الامريكية الغربية على روسيا اعطت نتائج معاكسة تماما لما ارادته امريكا والاطلسي ؛ حيثتعزز الروبل كثيرا أمام الدولار واليورو ، وتحسن أداءالاقتصاد الروسي أفضل بكثير من غالبية الاقتصاداتالأوربية، وزادت شعبية بوتين عما كانت قبل الحرب علىأوكرانيا، وأحدثت هذه الهقوبات ايضا هزة عنيفة وتأثيرمدمر على الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛نتيجة العواقب التضخمية المصحوبة بالركود؛ الناجمةعن العقوبات المالية والاقتصادية، وحظر التجارة معروسيا، التي تعد مصدرا رئيسيا للعديد من السلعالأساسية والموارد الطبيعية، ومنها(القمح والذرة، والنفطوالغاز، والفحم والمعادن) .

وباتت هذه الحرب ضد روسيا بمثابة تدمير للذات؛ حيثأضرت بالغرب أكثر من الإضرار بروسيا، مما سيؤدي إلىتسريع التفكيك المستمر للنظام الاقتصادي العالمي القائمعلى الدولار. 

ومع إخفاق العقوبات ضد روسيا في تحقيق اهدافهاالمعلنة، وظهور تأثيرها السلبي على العالم، وعلىالأمريكيين والأوربيين أنفسهم، اكبر بكثير من تأثيرها علىروسيا؛ اتى التفسير الغربي بأن العقوبات لم تكنمدروسة بعنايةلكن هذا التفسير لم يكن ليستقيم أمامكثيرٍ من الحقائق على أرض الواقع، ولا يصمد عند معرفةالهدف الاستراتيجي الكامن وراء تلك العقوبات المدمرة،حتى للذات.

وفي الواقع لم يكن الأمر سلبيا للنخبة الأمريكية والغربيةصناع القرار –رجال المال والأعمال والصناعة والنفط، رغمالآثار السلبية للعقوبات على المواطن الأمريكي والأوربي . فقد انتعشت اسوق السلاح الأمريكية والغربية، إضافةللفوائد العائدة على الصناعة النفطية الأمريكية؛ نتيجةارتفاع أسعار البترول، والتي تجاوزت حاجز المائة دولار،ووصلت إلى ما فوق 120 دولارًا؛ وهذا سيسمح بتسويقالنفط الأمريكي المستخرج من الخام الصخري مرتفعالتكاليف، والذي لا يمكن بيعه بأقل من 45 دولارًا للبرميل

لقد اصاب الخبير الاقتصادي الأمريكي “مايكل هدسون” ،أن الحرب في أوكرانيا كانت مجرد حافز لفرض عقوباتينتج عنها أزمات عالمية في الطاقة والغذاء؛ مما يسمحللولايات المتحدة الأمريكية بإجبار الجنوب العالمي –حسبتعبيره– على أن يكون معنا أو ضدنا.

ومع تفاقم الأزمات العالمية نتيجة أزمة كورونا، قامالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدةلاستجلاب الرساميل الاجنبية؛ مما يؤثر بشكل مباشرعلى قدرة خدمة ديون دول الجنوب العالمي؛ وبالتالي فإنهذا يضعها تحت حافة الإفلاس، وتحت رحمة البنكالدولي الذي تتحكم فيه أمريكا والغرب.

رغم محاولات امريكا والاتحاد الاوروبي تامين بديل طاقوي لاوروبا عن روسيا الا ان البدائل متعذرة بشكل كامل الا بعد سنوات، وان تامنت ستكون باسعار خيالية مدمرة لاقتصاد اوروبا المتداعي ،حيث بدء التقنين في تشغيل المصانع ،وطوابير السيارات امام محطات الوقود تنتظر لساعات ، التضخم وصل الى ارقام خيالية حيث تجاوز ال 11% في اوروبا ومتوقع ان يصل الى 20% حسب توقع بعض الخبراء الاقتصاديين ، نسب النمو التي كانت متوقعة من قبل البنك الدولي ايضا تتبدد واليورو سقط دون حاجز الدولار ويسجل انخفاضات تاريخية ،والبطالة تتزايد نتيجة توقف المصانع ،والتظاهرات تعم معظم دول الاتحاد الاوروبي اعتراضا على ارتفاع اسعار المحروقات والسلع والبطالة والتضخم وكبح غلاء المعيشة، وضد المنظومة الحاكمة التي تقودها امريكا الى مواجهة مع روسيا قد تتدحرج الى مواجهة نووية هي اكثر المتضررين منها. ، والتغيير بدء يلفح اوربا  بدءا من وصول الفاشيين الى رئاسة وزراء ايطاليا، وسقوط رئيسة وزراء بريطانيا بعد شهر من انتخابها، والخلافات بين دول الاتحاد الاوروبي برزت امس في اجتماع بروكسيل بشان تحديد سقف لاسعار الغاز الروسي وسط عدم القدرة على مواجهة ازمتها الطاقوية حيث صرع المستشار الالماني شولتز الى احتمال عقد قمة اوروبية جديدة في حال لم يتمكن وزراء الطاقة من الاتفاق على حل نهائي.

نعم العالم تغير ، اوروبا العجوز باتت ساحة مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات ووحدتها مهددة، الغرب بات غاربا،النيوليبرالية فشلت في استنباط الحلول الاقتصادية للازمات المفتوحة، والعولمة باتت بنكهة صينية ، الاحادية القطبية سقطت ،ونظام عالمي تعددي جديد بات في مخاض الولادة والشرق حاضنته، فمن ركب قطار امريكا والغرب اثناء صودهما عليه ان يستلحق نفسه  بالخروج سريعا قبل الوصول الى الهاوية . 

يتبع ….

عميد الدراسات والتخطيط

الامين رياض عيد