لاشكّ في أن صدور التعميم 166 يُعدّ تطوراً هاماً ومنعطفاً أساسياً على المستوى المالي في لبنان وتحديداً المصرفي، لتُطوى صفحة سوداء في تاريخ القطاع المصرفي اللبناني ومُجحفة في حق المودعين، وإن لا تزال غير كافية، ولنودّع بذلك هرطقات مصرفية ابتكرت مصطلحات فريدة من نوعها، فرّقت ما بين الدولار المصرفي أو ما يُعرف باللولار، والدولار الجديد ما بعد 17 تشرين الأول 2019 أو ما يُعرف بالفريش. وبالتالي فإن إعطاء المودع مبلغ 150 دولار فريش، وإن يعتبر زهيداً جداً، من حساباته التي حُوّلت من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول قد أعاد فعلياً لودائع الناس أهليّتها وأحقيّتها، بعدما عملت المصارف طوال سنوات الأزمة على شطبها واعتبارها ودائع غير مؤهلة أو غير صالحة عبر إخضاعها لعملة اقتطاع أو هيركات ممنهجة.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن كل من قام بتحويل وديعته من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين 2019، يحقّ له سحب 150 دولار فريش من دون أي اقتطاع، كما كان يحصل في السابق حيث أن المودع الذي كان يريد سحب نفس المبلغ على سعر 15 ألف ليرة كان عليه أن يسحب ما يوازي 900 دولار تقريباً أو لولار سابقاً. على أن يُستثنى من الاستفادة من التعميم كلّ من استفاد أو يستفيد من التعميم 158، كل من حوّل من ليرة إلى دولار بعد 31 تشرين الأول 2019 أكثر من 300 ألف دولار باستثناء المبالغ الناتجة عن تعويضات نهاية الخدمة، كل من استفاد من شراء ما يوازي أو يزيد عن 75 ألف دولار عبر منصة صيرفة، كل من سدّد بعد 31 تشرين الأول 2019 أرصدة قروض ممنوحة لهم بالعملات الأجنبية بما يوازي أو يزيد عن 300 ألف دولار، كل من حوّل أرصدة قروضهم من العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية بقيمة توازي أو تزيد عن 300 ألف دولار، كل من لم يلتزم بتطبيق التعميم 154 والقاضي بإعادة 30% من الودائع المحولة إلى الخارج، وكل من تظهر حساباته حركة شيكات مصرفية تدلّ على عملية تجارة شيكات بعد 31 تشرين الأول 2019. ولكن بطبيعة الحال ينبغي التذكير بأن هذا التعميم يبقى إجراء مؤقت وخطوة متواضعة نسبياً من قبل المركزي لحين إقرار خطة اقتصادية شاملة تقوم بالدرجة الأولى على تحديد الخسائر المالية وتوزيعها ومعالجتها بشكل عادل ومنصف بالترافق مع إعادة هيكلة للقطاع المصرفي وإقرار كافة القوانين النائمة في الأدراج منذ أربع سنوات.
في موازاة ذلك، صدر أيضاً التعميم 167 الذي ينصّ على اعتماد المصارف سعر الصرف المعلن على المنصة الإلكترونية المعتمدة من مصرف لبنان عند إعداد الوضعيات المالية، بمعنى أنه يفرض على المصارف تحويل الموجودات والمطلوبات النقدية المسجّلة في ميزانياتها بالعملة الأجنبية وسائر الموجودات غير النقدية إلى ما يوازي قيمتها بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف السوقي أي 89,500 ليرة. وهو ما يشكّل تحدياً أساسياً للقطاع المصرفي، إذ أنه سيعكس الصورة الحقيقية والواقعية لوضعية المصارف على صعيد ماليتها وحجم رساميلها وسيولتها وملاءتها بشكل عام، لاسيما وأنه سيترافق بطبيعة الحال مع تراجع كبير في قيمة رساميل المصارف وفي نسب ملاءتها، عملياً، لتتبخّر دفترياً، بعدما فقدتها نظرياً منذ اندلاع الأزمة في نهاية العام 2020. مع الإشارة إلى أن التأثير السلبي سيطال نسبة كفاية رأس المال لدى المصارف، أي النسبة التي تحدّد مدى قدرة المصرف على تحمّل المخاطر الجمّة مثل مخاطر الائتمان، والمخاطر التشغيلية وغيرها، والتي من شأنها أن تحمي المصرف والمودعين والمقرضين وبالتالي الحفاظ على الثقة في النظام المصرفي. ما سيتحدّد بالتالي من هي المصارف القادرة على إعادة الرسملة والاستمرار ومن هي المصارف التي لن تقوى على الاستمرار والخروج من السوق.
أما في ما يتعلق برفع سعر صرف السحوبات المصرفية من 15,000 ليرة للدولار إلى سعر صرف جديد يتزامن مع سعر الصرف الرسمي الجديد أو سعر صرف بديل يتمّ الاتفاق عليه، فهو بطبيعة الحال خطوة أساسية نحو استعادةٍ ولو جزئية لأموال المودعين المحتجرة. ولكن تقيناً، هل تستطيع المصارف ومعها مصرف لبنان تسديد السحوبات المصرفية بالدولار وفق سعر صرف الـ90 ألف على سبيل المثال؟ في الواقع، إن المصارف من جهتها تفتقر إلى السيولة بالليرة في ضوء سياسة مصرف لبنان المعتمدة لجهة العمل على امتصاص الكتلة النقدية بالليرة من السوق ولجمها من أجل الحفاظ على استقرار سعر الصرف. وبالتالي فقد نكون مجدداً أمام تخفيض إضافي لسقف السحوبات الشهرية ليتماشى مع أهداف المركزي لناحية تجفيف السوق من الليرات.
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن كلّ هذه التعاميم تبقى معالجات موضعية وترقيعية لتمرير الوقت وذلك لحين الشروع في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة وفق خطة إنقاذ اقتصادية لمعالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية البنيوية، وإلا فإن أي معالجات موضعية كالتي تعوّدنا عليها خلال السنوات الأخيرة من شأنها أن تلجم الأزمة تفادياً للارتطام الكبير، خاصةً إذا ما بقيت مؤسسات الدولة في شللها وانحلالها دون أي حسّ بالمسؤولية أو إدراك لمدى فداحة الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ نهاية العام 2019.