من التوتر الى الاستقرار… استراتيجية الخليج العربي في سوريا

في ظل التحديات الإقليمية والدولية المتعددة التي تعصف بالشرق الأوسط، تبوأت الدول الخليجية موقعاً بارزاً في السعي نحو تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، وهو أمر يشمل بالطبع الوضع في سوريا، ومن خلال التطبيع العربي السوري، تسعى الدول الخليجية إلى رأب الصدع في الأوضاع الداخلية السورية وتخفيف التوترات الإقليمية المستمرة.

كما يعتبر التطبيع العربي السوري عنصراً حيوياً في سياق تعزيز الاستقرار، إذ يسهم في فتح قنوات الحوار والتفاهم بين الدول العربية وسوريا، وبالتالي يمهد الطريق لحلول سلمية للصراعات والأزمات في المنطقة، وبالنظر إلى التطورات السياسية والأمنية في سوريا، فإن إخراج القوى الإقليمية والدولية لتحل محلها القوى العربية كقوى مساهمة لا مسيطرة، يعد خطوة حاسمة نحو تحقيق الاستقرار وإنهاء الصراعات المستمرة.

بالتالي، يظهر التطبيع العربي – السوري كعامل رئيسي للمساهمة في تعزيز الاستقرار في المنطقة، حيث تسعى الدول الخليجية إلى بناء جسور الثقة وتعزيز العلاقات الإقليمية المشتركة من خلال التفاهم والحوار، وبالتالي، يتبنى هذا التطبيع نهجاً إيجابياً يعزز الفرص للتوصل إلى حلول دبلوماسية وسلمية للأزمات، ويسهم في تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وكذلك في شمال إفريقيا.

حدثان مهمان

في بداية عام 2024، شهدت سوريا حدثين دبلوماسيين مهمين يشكلان جزءاً من تحولات إقليمية أكبر، في 30 يناير/كانون الثاني (2024)، تم تعيين حسن أحمد الشحي، أول سفير لدولة الإمارات العربية المتحدة لدى سوريا منذ 13 عاماً، في خطوة تعكس تحسن العلاقات بين دولة الإمارات وسوريا، وعقب ذلك بأيام، وصل القائم بأعمال سفارة المملكة العربية السعودية عبد الله الحارث إلى دمشق في 3 شباط/فبراير (2024)، لاستئناف عمل السفارة السعودية في سوريا، ممثلاً لأول تواجد دبلوماسي سعودي في البلاد منذ عام 2012.

هذه الأحداث، رغم عدم حظيهما بتغطية إعلامية كبيرة، إلا أنهما تشكلان خطوة مهمة في إعادة الربط بين الدول العربية وسوريا، بعد فترة لا بأس بها من العزلة السياسية، كما تُعَدُّ هذه الخطوة جزءاً من جهود أوسع لإعادة سوريا إلى الحضن العربي، والتأكيد على دور الدول العربية في التوفيق بين المصالح الإقليمية والتحديات الأمنية.

بالتالي، تعكس عودة الدبلوماسيين الإماراتي والسعودي إلى سوريا أيضاً التوجه نحو تحسين العلاقات بين الدول العربية والبحث عن حلول سياسية للأزمة السورية، بما يحقق الاستقرار والأمن في المنطقة بشكل عام، ومع ذلك، يبقى هناك تحدي كبير أمام هذه الجهود، خاصة في ظل التعقيدات السياسية والمصالح الدولية المتشابكة في سوريا.

وبعد انتشار أحداث الربيع العربي ووصولها إلى سوريا، شهدت العلاقات بين دمشق وجيرانها الإقليميين تدهوراً ملحوظاً، وكانت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي هي الخصوم الرئيسيين، حيث اتخذت قطر والمملكة العربية السعودية مواقف صارمة، ما تسبب في قطيعة مع النظام الرسمي السوري، وبالطبع هذا ليس سرّاً، فكل مرحلة تتطلب نوعاً محدداً من العلاقات، بصرف النظر عن صوابية وأخطاء هذه المواقف، فقد وصلت العلاقات بين سوريا والدول الخليجية إلى أعلى نقطة تصعيد في نوفمبر 2011، عندما قررت جامعة الدول العربية بالإجماع شبه الكامل سحب العضوية من الحكومة السورية وتجريدها منها، وبعد هذه الخطوة، تم تسليم مقعد سوريا في الجامعة إلى ممثلي هيكل المعارضة السورية، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في خطوة تُعتبر تصعيدية بشكل كبير.

وفي إطار هذه التوترات، قررت جميع دول مجلس التعاون الخليجي تقريباً وقف عمل بعثاتها الدبلوماسية في سوريا، باستثناء سلطنة عمان التي استمرت في الاحتفاظ بسفارتها هناك والمعروف بحياديتها في أبرز الأزمات العربية، وهو ما يعكس حجم التوتر الدبلوماسي بين الأطراف المعنية.

أما ما استجد هو أن الساحة السورية بدأت تشهد تحولات كبيرة في الأحداث والتوجهات الإقليمية، حيث بدأت الدول العربية تعيد تقييم مواقفها وسياستها تجاه الأزمة السورية، وذلك نتيجة لتحولات ميدانية وتغير في الديناميكيات الإقليمية، فعلى خلفية تغير النقاط المحورية في الصراع المسلح في سوريا، بدأت الدول العربية تعيد النظر في مواقفها، حيث أصبحت فكرة إزاحة الرئيس بشار الأسد بالقوة تبدو غير واقعية بعد تحقيق الجانب السوري تقدماً بفضل الدعم الروسي والإيراني.

من اللافت أيضاً أن ممالك الخليج فقدت تأثيرها السابق “على الأرض”، حيث أصبحت السيطرة الشبه كاملة على المعارضة السورية، التي كانت تدعمها سابقاً، تحت السيطرة التركية. وقد تم دمج التشكيلات القبلية العربية في شرق المناطق الإدارية الكردية بمساعدة أمريكية، وهو ما جعل كل المجموعات السابقة التي كانت تتلقى الدعم الخليجي تختفي تقريباً ضمن هذين الهيكلين الكبيرين.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت دول الخليج العربي تحول الصراع السوري إلى الخلفية، حيث تركزت اهتماماتها على التطورات في اليمن وليبيا، مما يشير إلى تغييرات في الأولويات الإقليمية وتوجهات السياسة الخارجية.

وفي تطور ملحوظ يشير إلى تحول في المشهد الإقليمي، قامت دولة الإمارات ومملكة البحرين بمحاولة أولى لإعادة العلاقات مع دمشق، وجاءت هذه المحاولة في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018، حيث استأنفت كل من الإمارات والبحرين، بفارق يوم واحد فقط، عمل سفارتيهما في سوريا.

تمثل هذه الخطوة محاولة واضحة لإعادة الروابط الدبلوماسية المنقطعة منذ سنوات، وتعكس تحولاً في السياسات الخارجية لبعض دول الخليج العربي، ورغم أن هذا التطبيع قد لاقى بعض الدعم والزخم، إلا أنه تم ببطء شديد واستغرق ما يقرب من خمس سنوات أخرى ليتحقق بالكامل.

وبعد تغيّرات كبيرة في المشهد الإقليمي عقب زلزال 6 فبراير 2023، قررت العديد من الدول العربية إعادة النظر في علاقاتها مع سوريا ورفعها إلى المستوى السابق، ومن بين هذه الدول، كانت المملكة العربية السعودية التي تحتل مكانة بارزة، حيث قادت جهوداً مكثفة لإعادة سوريا إلى الساحة العربية.

وقد شهدت الجهود السعودية نتائج إيجابية، حيث ساهمت المملكة في إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى الحكومة السورية. وفي مارس/آذار من العام الماضي (2023)، أعلنت الرياض ودمشق استئناف العلاقات الدبلوماسية، مما شمل استئناف عمل سفارتي البلدين.

للوهلة الأولى، بدا أن كل الخلافات السابقة قد تم نسيانها، وأن أعضاء الجامعة العربية سيشاركون في عملية إعادة إعمار البلاد، حيث كان من المتوقع أن يبدأ تدفق الاستثمارات من دول العائلة العربية لدعم هذه العملية، وفي هذا السياق، ناقش خبراء السياسة والاقتصاد سيناريوهات مختلفة لتقليل تأثير روسيا وإيران في سوريا.

ومع ذلك، فإن الواقع لم يكن كما هو متوقع، حيث لم تتحقق تلك الآمال في الاستثمارات العربية المتوقعة، وظل النفوذ الروسي والإيراني سائداً في الجمهورية العربية السورية.

كما لم يكن هناك إجماع عربي واضح حول إعادة سوريا إلى مجتمع الدول العربية، حيث عارضت قطر والكويت والمغرب جهود تحسين العلاقات آنذاك، وقد طُرحت شروط معينة على الحكومة السورية، خصوصاً من المملكة العربية السعودية، كجزء من المبادرة الأردنية المعروفة سابقاً.

تم تحديد هذه الشروط ضمن مجالات محددة، بما يسمى بالمبادرة الأردنية، مع التركيز على الفئات الإنسانية والسياسية والأمنية، حيث تضمنت هذه الشروط مجموعة من القضايا الملحة مثل عودة اللاجئين، وإجراءات الإصلاح السياسي، واستئناف عمل اللجنة الدستورية، وإجراء مزيد من التغييرات على القانون الأساسي للبلاد، ومكافحة التهريب عبر الحدود وتهريب المخدرات، بالإضافة إلى انسحاب القوات الأجنبية، وهي الشروط التي تهدف بشكل مباشر إلى الحد من تأثير إيران في سوريا، ومع ذلك، فإن هذه الشروط كانت مرتفعة للغاية، مما دفع إلى ضرورة إجراء تطورات إضافية في العلاقات بين الدول العربية وسوريا.

وجدير بالذكر أنه منذ الصيف الماضي، توقفت عملية التطبيع بين الدول العربية وسوريا، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم تلبية الحكومة السورية بعض المطالب المطروحة أمامها، ونتيجة لذلك، لم تشهد دول الخليج أي تدفق للاستثمارات نحو سوريا، وتعقدت أيضاً الجهود لفتح البعثات الدبلوماسية، حيث فشلت السعودية بشكل ملحوظ في إعادة فتح سفارتها في سوريا خلال عام 2023.

وحتى الآن، لم يتم تحقيق تقارب شامل بين الأطراف، بل يبقى الوضع على مستوى الانفراج دون إقامة علاقات كاملة، وفي هذا السياق، أشار الرئيس السوري، بشار الأسد، في مقابلة مع سكاي نيوز، إلى أن العلاقات مع الدول العربية ستظل شكلية حتى يتم حل المشاكل المعلقة، وأكد الأسد على أهمية العلاقات مع روسيا وإيران، مشيراً إلى أنها أثبتت كفاءتها كحلفاء حقيقيين لسوريا وقدرتها على اختيار الأصدقاء بشكل صحيح، ما قد يعرقل إلى حد ما مسألة التطبيع الكامل بالنظر إلى مواقف بعض الدول من التدخل الإيراني في بعض الدول العربية ومن بينهم سوريا.

بالمقابل، تشير التطورات الحالية حول تعيين سفير الإمارات والقائم بالأعمال السعودي إلى أن دمشق قد بدأت في استيفاء الشروط المحددة لإعادة تطبيع العلاقات مع الدول العربية. ومن الواضح أن هناك تفاهماً بين الأطراف المعنية، حيث قررت دمشق تقديم التنازلات لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، والتي تشمل بشكل أساسي مكافحة التهريب عبر الحدود، بما في ذلك تهريب المخدرات، حيث يعتبر الأردن من أكثر الدول تأثراً بهذه الظاهرة، حيث تمر البضائع غير المشروعة من خلال أراضيه باتجاه الخليج العربي، وقد اتخذت الحكومة الهاشمية إجراءات عسكرية حازمة لمكافحة هذه الظاهرة، وشنت عمليات عسكرية ضد المهربين على الحدود منذ العام الماضي.

ونتيجة لذلك، يُناقش الوضع الحالي في سوريا وآثاره على الدول المجاورة في مختلف المنصات الدولية، بما في ذلك صيغة أستانا التي تضم العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وخلال المفاوضات مع الوفد الروسي، أعرب وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، عن قلق بلاده إزاء التهديدات الأمنية الجسيمة التي تنبع من تهريب المخدرات ووجود المسلحين في جنوب سوريا، مما يستدعي التصدي لها بشكل عاجل وفعّال.

بالتالي، يبدو أن الحكومة السورية قررت الاستجابة للتحديات الأمنية المشتركة والعمل على حل المشكلة المتعلقة بالتهريب عبر الحدود، وذلك يعكسه التغييرات والتعيينات الجديدة في الكتلة الأمنية في البلاد، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تعد خطوة إيجابية، إلا أنها لا تغطي سوى جزءاً صغيراً من المتطلبات التي يتعين على سوريا تحقيقها لاستعادة الثقة والاستثمار الموعود من الدول العربية.

وقد استغرق الأمر من الأطراف المعنية ما يقرب من عام للتوصل إلى حل وسط في المرحلة الأولية، مما يعكس التعقيدات التي تحيط بعملية التطبيع. وبالتالي، يتوقع أن يستغرق استيفاء جميع الشروط اللازمة وقتاً طويلاً، ومع ذلك، فإن استمرار الجهود نحو التوصل إلى حلول مبتكرة يظل أمراً حيوياً، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحقيق تقدم إيجابي نحو استقرار المنطقة وتحسين العلاقات الإقليمية.

بالتالي، يبقى الأمل موجوداً في أن الجهود المبذولة لحل القضايا المشتركة بين سوريا والدول العربية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق نتائج إيجابية، مما يفتح الباب أمام آفاق جديدة للتعاون والتطور في المنطقة.

وباعتبار سوريا جزءًا لا يتجزأ من المحيط العربي، فإن أي مسار نحو الاستقرار والتنمية المستقبلية يجب أن يتضمن علاقات قوية وتعاون فعّال مع الدول العربية، وخاصة الدول الخليجية. فهذه الدول لها دور حيوي في دعم استقرار المنطقة وتعزيز التعاون الإقليمي، وبدونها، فإن أي جهود لتحقيق الاستقرار في سوريا ستكون محدودة الفعالية.

إذاً، فإن الاعتماد على الدعم الخارجي وحده لن يكون كافياً لضمان استقرار سوريا، بل يتطلب الأمر أيضًا تعزيز العلاقات وتعميق التفاهم مع جيرانها العرب، وخاصة الدول الخليجية، التي تمتلك الموارد والقدرات اللازمة للمساهمة في عملية إعادة بناء وتنمية البلاد، لذا، يتعين على سوريا وقيادتها السعي إلى بناء علاقات مستدامة مع جيرانها العرب، وتعزيز التعاون في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، من أجل تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في المنطقة.

عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.