يحتفل الموارنة في 9 شباط بعيد القديس مارون شفيع طائفتهم ، وقد عرف ” بقديس سوريا” لانه عاش وتنسك ومات في براد قرب حلب .
بعد مرور أكثر من 1600 سنة على وفاة مار مارون، ما زالت تشهد الطائفة المارونية دورة جديدة من الصراع على هويتها ودورها وغدها. عندما توفي الناسك مارون تقاتل محبوه حول من يحتفظ بجثمانه. ومن يومها، يختلف الموارنة حول تسميتهم ومرجعيتهم، الى درجة أنهم لا يتفقون على مكان تنسك ودفن شفيعهم. وحول كل محطة تاريخية يتباين الموارنة ويختلفون. سنتوقف في هذه المقالة على سلسلة المحازر التي تعرض لها المسيحيين في الشرق واختلفوا على من نفذها ومعظمهم يجهل الفاعل .
1- المجزرة الأولى حصلت العام 517 راح ضحيتها 350 راهباً مارونياً في شمال سوريا . نستذكر هذه المأساة ناقلين بأمانة الوقائع والأحداث كما هي بالإضافة إلى غيرها من المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين في المنطقة والظروف التي رافقتها. خاصة وأن الكُتاب المحدثين يجهلون الفعّلة الحقيقيين ويغيبون دور اليهود فيها رغم وجود المستندات و الوثائق والشواهد الدامغة والكثيرة.
بداية، ما هي ظروف هذه المجزرة ومن نفذها؟
احتدم الخلاف بين المسيحيين بين مؤيد ومعارض للعقيدة اللاهوتية التي كان قد أقرها مجمع خلقيدونيا في العام 451 والتي تمثلت في قانون إيمان ارتوذكسي مدعوم من الامبراطور. لكن في العام 512 ارتّد الملك انستاس على مقررات مجمع خلقيدونيا وشن حربا على المتمسكين بتعاليم المجمع المسكوني. وقام في العام ذاته بطرد البطريرك الشرعي فلابيانس على انطاكيا وأقام مكانه ساويروس. وعين هذا بدوره حليفه بطرس ، المدعو القصار، اسقفا على أفاميا. أدى هذا الخلاف إلى اصطدامات دموية عدة بين الفريقين. وقد تنادى الرهبان المؤيدون للمجمع الخلقيدوني الى اجتماع بالقرب من دير سمعان في سوريا الأولى، فنصب لهم كمين من قبل اتباع بطرس والبطريرك ساويروس المدعومين من الملك انستاس وقد استعانوا لتنفيذ المجزرة بمجموعة من الرجال اليهود الأشرار المشترين بالمال وقتلوا 350 من الرهبان المنتمين إلى دير مار مارون والأديار المتحلقة حوله.
وقد روى الرهبان الناجون حوادث هذه المجزرة من خلال رسائل احتجاج وعرائض شكوى وجهوها إلى البابا والمراجع الدينية والملكية والمجامع الأسقفية، وقد وصل إلينا منها سبع وثائق تلقي الأضواء على تفاصيل المجزرة وبشاعتها.
وقد جاء في “عريضة مرفوعة من رهبان أفاميا: ” وإذا بيهود أو علمانيين أو حتى رهبان انقضوا على الآباء من أماكن مرتفعة ووعرة… بفظاظة وفظاعة وبطش وقتلوا بعضا واستاقوا بعضا أسرى، وعروا بعضا من ثيابهم، واقتادوا بعضا أمام الملأ بثياب غير لائقة…” ثم ” قاموا بهجوم آخر على دير مار سمعان وهدموا شطرا من السور ودخلوا ليلا وقتلوا بعضا وضربوا الكثيرين ونهبوا مؤونة الدير الحقيرة، ونصبوا رموزا أثيمة مخالفة للتقوى… ولم يتردد هؤلاء فعلا عن هدم الدير كما يحصل في الحصار وعن أسر الرهبان بينما كان هؤلاء يرتلون…”.
وفي رسالة أخرى وجهها رهبان أنطاكيا جاء فيها: ” وليس من يجهل أيها الجزيلو القداسة لا نحن ولا غيرنا، كم قتل من الرهبان القديسين مستخدما لذلك الأيادي اليهودية. لكم كان قاسيا مشهد ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين رجلا من سوريا الثانية… منطرحين عراة على الحضيض تنهشهم الكلاب والطيور، ناهيك عن أمور مماثلة تنفطر لها القلوب… “، وأيضاً، “جمع هؤلا شرذمة من اللصوص اليهود المجرمين، وأطلقوهم على الرجال الأبرار”.
وفي عريضة موجهة من رهبان القسطنطينية وأورشليم وفلسطين وسيناء وبلاد العرب وسوريا” جاء ما يلي : ” نسكت عن الاعتقالات والزج في السجون ونهب الأديار ليل نهار واغتيالات الأبرياء فيها. نسكت عن هجماتهم الغادرة في الطرقات على الأبرياء وسفكهم دماء القديسين. بينما كان هؤلاء سائرين نحو دير القديس سمعان بدافع الغيرة والتشاور الجماعي بصدد مضطهدي الكنيسة وعمالهم، جمع هؤلاء شرذمة من اللصوص اليهود المجرمين وأطلقوهم على الرجال الأبرار. كمن الزبانية الهمجيون للرجال القديسين في الطريق وظهروا من مكامنهم وهجموا فجأة على رجالنا كالكلاب الهائجة وأعملوا السيوف في ثلاثمائة وخمسين منهم وقطعوهم إربا إربا وطرحوا أشلاءهم على قارعة الطريق غير عابئين بدفنهم… “
إن المجزرة التي راح ضحيتها 350 راهبا من دير مار مارون والأديار المتحلقة حوله، والتي تحيي ذكراها الطائفة المارونية في 31 تموز في كل عام، هي مجزرة رهيبة في ذاكرة الموارنة، لكن كتب التاريخ غالبا ما تجهل الفاعل وهم اليهود. ونادرا ما تذكر الكتب التاريخية المارونية المعاصرة بأن منفذي هذه الجريمة هم ” شرذمة من اليهود الأشرار” وذلك يعود إلى أن كتب التاريخ المارونية لا تبرز الدور اليهودي في ارتكاب هذه المجزرة مع العلم أن البطريرك اسطفان الدويهي قد أشار إلى رسالة من هذه الوثائق في كتابه أصل الموارنة (حققه الأب أنطوان ضو ص. 102 ) وتشير صراحة بأن الرهبان قتلوا بواسط “الأيدي اليهودية ” كما أن الأب بطرس ضو في كتابه تاريخ الموارنة قد نقل نص هذه الوثائق السبع في الفصل الثالث من ص. 164 إلى 197.
واللافت للنظر أن الأباتي بولس نعمان في كتابه ” المارونية لاهوت وحياة ” يذكر هذه المجزرة مرتين، ص.50-51 و 152، من دون أن يذكر بأن اليهود هم الذين نفذوا الجريمة مع العلم انه في باب الوثائق نشر النص الحرفي لأربع رسائل تتحدث عن المجزرة وتشير بوضوح إلى الأيدي اليهودية في تنفيذها وذلك من الصفحة 167 إلى 170.
2 – مجزرة نجران عام 523م، حيث نفذ اليهود في جنوب الجزيرة العربية مجازر عدة في حق مسيحيي تلك المنطقة أودت بحياة الآلاف منهم إما قتلاً بالسيف أو إبادة بالحريق. وكان أشدها فظاعة ما حدث في نجران التي أعطت اسمها عنواناً لتلك المجازر. والمحرقة جاء ذكرها في القرآن الكريم، في سورة البروج التي خصص معظمها للإخبار عنها.
هذا وقد وصل إلينا مواد وثائقية تعود إلى زمن الحادثة نفسها كان قد كتبها معاصرون لها ورووا فيها عن شهود عيان ما رأوه فعلاً أو سمعوه مباشرة من أناس كانوا على صلة بالتطورات التي حدثت. أبزر هذه المواد وأكثرها التصاقاً بالحدث هي ما كتبه سمعان الأرشمي وهو أسقف فارس (توفي حوالي سنة 540م) عاصر الأحداث الدامية في جنوب الجزيرة العربية واطلع عن كثب على مجرياتها، من خلال ما كان ينقله إليه أهل نجران ممن نجوا من المحرقة، وأيضاً من خلال الرسالة التي اطلع عليها وقد كتبها الملك الحميري اليهودي الذي نفذ المجزرة إلى المنذر ملك اللخميين في الحيرة، يحضه فيها على التعامل مع المسيحيين لديه بمثل ما تعامل هو مع مسيحيي نجران.
وواضح من هذا العرض السريع لبعض المصادر العربية أن جوه الحقيقة التاريخية عن الحادثة مدار البحث هنا كان معروفاً لدى المؤرخين والمفسرين العرب، فهو بجملة واحدة حدوث مجزرة/ محرقة ارتكبها اليهود بحق المسيحيين في اليمن.
كانت محرقة نجران في العام 523م إحدى أكثر الصور بشاعة في منظومة الإبادة الجماعية التي ارتكبها اليهود في حق المسيحيين. غير أن مجزرة القدس، فاقتها وحشية وولوغاً في الدم.
3 – وقعت مجزرة القدس العام 614م، عندما أُطلقت يد اليهود في المدينة المقدسة التي دخلوها تحت راية الفرس بعد أن احتلوها ذلك العام، فكانت فرصتهم الذهبية لتطبيق منظومتهم في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
كان ذلك في أثناء الحرب الفارسية-البيزنطية التي امتدت من سنة 602 إلى سنة 628 ميلادية، وهي آخر حلقة من سلسلة الحروب الفارسية-البيزنطية/الرومانية، التي أجهدت الطرفين وتسببت بكوارث ومآس عميقة الأثر في المنطقة التي شهدت تطورات الحرب والتي امتدت من إيران إلى بلاد ما بين النهرين والأناضول وأرمينيا وسوريا وانتهاء بمصر.
مع حلول العام 613 كانت الهزائم التي لحقت بالبيزنطيين قد أتاحت لللفرس السيطرة الفعلية على أرمينيا ومعظم مناطق الأناضول، حتى إنهم وصلوا إلى القسطنطينية نفسها دون أن يقتحموها، كما سيطروا على أعالي الساحل السوري بعد أن احتلوا أنطاكيه. وكانت وجهتهم الآن جنوباً، نحو بلاد الشام، فأخذوا بطريقهم أفاميا وحمص ودمشق، ومن هناك اتجهوا إلى الجليل في شمال فلسطين.
وقد أنعش اقتراب الفرس من فلسطين فكرة “الخلاص” اليهودية التي سوف تكون على أيدي الفرس، وهي التي كانت زرعت أول مرة في الحكاية التي نسجت عن كورش وأمره بإعادة اليهود المنفيين إلى فلسطين وببناء “الهيكل”.
وعلى هذا الأساس أسرع اليهود لاستقبال الغزاة الفرس ووضعوا أنفسهم في تصرفهم وتحت قيادتهم. ويصف المؤرخ الأرمني سيبيوس الذي كان معاصراً للحدث ما وقع آنذاك (مع دخول الفرس فلسطين) بقوله:”إن بقايا الشعب اليهودي انتفضوا على المسيحيين وارتكبوا مذابح مدمرة في صفوف جماهير المؤمنين، واندفعوا باتجاه الفرس ووحدوا أنفسهم معهم”.
فقد اشترى اليهود من الفرس الأسرى المسيحيين وقاموا بذبحهم كما تذبح الشياه، وفق تعبير ستراتيجوس، وعندما انتهوا من هذه المهمة التفتوا إلى الكنائس فقاموا بإشعال النار فيها.
المؤرخ البيزنطي ثيوفانس يجعل عدد ضحايا المجزرة أعلى من هذا الرقم الذي أثبته ستراتيجوس، ويُحمل اليهود المسؤولية الكاملة عن المجزرة. يقول: ” في هذا العام 614م، استولى الفرس في الحرب على فلسطين ومدينتها القدس. وقد قتلوا بأيدي اليهود كثيراً من سكانها، ويقول البعض إن عددهم بلغ تسعين ألفاً. وكان اليهود كعادتهم يشترون المسيحيين ثم يقومون بقتلهم”.
وهكذا تعرض المسيحيين لأفظع حرب إبادة في تاريخهم على أيدي اليهود . ولمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب: “مقاتل المسيحيين (نجران 523م والقدس 614م) وصفحات أخرى من تاريخ التنكيل اليهودي بهم – د.عصام سخنيني – 2013- المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
نعيد التذكير بهذه الحقائق ونضعها بالوثائق أمام الرأي العام، وذلك من أجل مزيد من التدقيق، لتحديد الجهة المسؤولة عن تنفيذ الجريمة، منعا للتأويل والتحريف والتجاهل والنسيان، خاصة وأن المرويات الشعبية تحاول أن تحّمل الجريمة لفئات لم تكن موجودة بعد على ساحة الأحداث. وكثيرا ما تستغل عقدة الخوف والتخويف من أجل التعبئة السياسية الحاقدة وبناء أساطير زائفة.
ولتجنب هذه التعبئة والخرافات والأساطير الزائفة لا بد من تفحص مجزرة العام 517 وأخواتها نجران والقدس ، والتنقيب في كافة المراجع، كجزء من عملية وعي وإدراك تاريخيين لما حدث… فالمعرفة هي الخطوة الأولى لدحض الأضاليل التي تحاول تشويه الذاكرة والتستر على مرتكبي هذه المجازر البشعة.