مقدمة
النظرية السامية هي نظرية منشؤها سفر التكوين من كتاب التوراة الذي قام بتقسيم شعوب في الشرق القديم تقسيماً عرقياً مزاجياً، من خلال نسبها إلى “سام”، الابن الأكبر لـ “نوح”، وأخويه “حام” و”يافث”… ولكن هل من تعريفٍ لـ “سام” و”حام” و”يافث” في وثائق الشرق القديم؟ وكيف تُنسب إلى “سام” –مثلاً- شعوب وتُلغى شعوب أخرى من نفس المنطقة -كالكنعانيين- والذين جعلهم كتاب التوراة –من خلال مغالطة تاريخية لا سند لها- أبناءً لـ”حام” –أخي “سام”- على أن “حام” –حسب سفر التكوين- كان قد أغضب أباه “نوح” حين سَكِر الأخير وتعرّى داخل خبائه فكشف “حام” عورته، لكن “نوح” صبّ جامّ غضبه على “كنعان” إبن “حام” حسب التوراة! إذاً فالأب “حام” يكشف عورة الجد “نوح” ولكن من يُعاقَب هو الحفيد “كنعان”، فيتم إقصاؤه –كشعب أصيل- من التصنيف العرقي في المنطقة! ولعلها رواية توراتية خرافية تناسب إيديولوجيا كُتّاب التوراة وأهواءهم، فسمّت “الساميّين” بهذا الاسم نسبةً إلى “سام”، المذكور في الإصحاح العاشر من سفر التّكوين، على أن مجموعة من الأنساب انحدرت منه، بزعم أنها تضمّ الأراميّين، والعيلاميين والليديين والآشوريّين، وبني “عابر”(العبرانيين) وآخرين…باستثناء الكنعانيين كما ذكرنا وفق الايديولوجيا التوراتية.
نشوء النظرية السامية حديثاً:
أول من أوجد تسمية “الساميين” استناداً إلى قائمة الأنساب في سِفر التكوين من كتاب التوراة هو اللاهوتي النمساوي (أوغست لودويك شلوتزر A.L.Schloetzer) عام 1781م، معتمداً على ما ورد في ذلك السِفر، ومنه أن “سام هو أبو كل بني “عابر”، الذي ينسب اليهود أنفسهم إليه، زعماً أن إبراهيم أحد أحفاده، وينسبون إلى “سام” شعوباً بلا مبرر تاريخي…
وكان أول من أطلق مصطلح “السامية” هو المؤرخ الفرنسي (أرنست رينان Ernest Renan) في القرن التاسع عشر الميلادي، ثم قام المؤرخ الألماني (آيشهورنEichhorn) بإشاعة المصطلح وتعميمه، أما من أطلق عبارة “معاداة السامية (Anti-Semitism) فهو الصحافي الألماني “فيلهلم مار”((Wilhelm Marr في أواخر القرن التاسع عشر، مستبدلاً بهذا المصطلح العبارة الألمانية “يودنهاس” (Judenhass) التي تعني “كراهية اليهود”…ففي سنة 1879 نشر “فيلهلم مار” كتيّباً استخدم فيه مصطلح “الساميّة” بدلاً من مصطلح “اليهوديّة”.
وقد التزمت المدرسة التوراتية ـوالإسرائيلية بربط اسم “سام” باليهود عموماً، مستغلّةً ما ورد في سفر التكوين، وما ذهب إليه “شلوتزر” و”رينان” و”فيلهلم مار”.
الرد على النظرية السامية:
إن التفاسير التوراتية الخاصة بأصول الشعوب، وخاصة فيما يتعلق بربط “سام” و”عابر” بها، هي معلومات لا أساس لها من الصحة والمنطق، فـ”سام” و”عابر” التوراتيان إسمان لشخصين مجهولين في وثائق الشرق القديم الحقيقية، شأنهما في ذلك شأن معظم الشخصيات التوراتية، لذا لا يمكن قبول مصطلح السامية ولصقه باليهودية لعدم علميته، أما الغرض من تحويل عبارة “معاداة السامية” إلى تهمة سياسية فهو معاقبة من يعادي الديانة اليهودية بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وتجريم من عادى ويعادي الصهيونية –كمرادف لليهودية- بعد وعد بلفور في مطلع القرن العشرين… فمن جعل الصهيونية مرادفاً لليهودية، هو من جعل السامية مرادفاً لليهودية، أي اليهود أنفسهم، لذلك من الصعب الفصل بين اليهودية والصهيونية –ومنذ تأسيس الحركة الصهيونية- إلا في حالات نادرة جداً…فالحركة الصهيونية هي حركة سياسية ظهرت أواخر القرن التاسع عشر الميلادي داخل الكنتونات اليهودية في أوروبا، وارتبطت بصاحب مشروع الدولة اليهودية ومؤسس الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي “تيودور هرتزل”، وهو مؤلف لكتاب يحمل اسم “الدولة اليهودية”The Jewish State … وقد هدفت الحركة الصهيونية حسب مؤسسيها إلى النهضة السياسية لليهود باحتلالهم لفلسطين، وإعطاء مضمون سياسي وقومي لليهودية، أي خلق دولة يهودية وفق المعتقدات التوراتية والتلمودية، على أن تمكّن هذه الدولة اليهود في العالم من احتلال فلسطين، استناداً إلى خرافة ما سمي بـ “الوعد الإلهي” الواردة في سفر التكوين بكتاب التوراة، وهي الركيزة الأساسية لموضوع “السامية” و”اللاسامية”.
وكانت شعوب الشرق القديم الحقيقية قد تركت أدلّةً كتابيةً حقيقيةً على أسمائها، تخلّدت على الألواح المسمارية والنقوش الحجرية والمعدنية وغيرها، فورد ذكر السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين والكنعانيين والآراميين والعرب والأرمن والفرس وغيرهم في شتّى أنواع التركة الكتابية العائدة إلى مدن الشرق القديم وحضاراته، باستثناء “سام” و”الساميين” و”العبرانيين”، فهل يمكن القبول بالتقسيم العرقي “المزاجي” للشعوب نزولاً عند رغبة كاتب سفر التكوين في كتاب التوراة، المصدر الوحيد لاسم “سام” و”الساميين”، والذي يربط بعض الشعوب والأقوام دون مبرر بـ”سام” المجهول تماماً في وثائق الشرق القديم؟!
إذاً فمصطلح السامية مصطلح خاطئ علمياً، ولا أساس من الصحة لتسمية “شعوب سامية” أو “لغات سامية”، كما أن الحديث عن أصل مشترك لبني “سام” كما ورد في كتاب التوراة، لا يستند إلى معطيات تاريخية أو أثرية أو لغوية، وبالتالي فقائمة الأنساب التوراتية مخالفة لحقائق التاريخ المثبتة على الأرض، وعلى سبيل المثال، فهناك شعوب مختلفة عن بعضها تُدرجها روايات التوراة في قائمة “الساميين” كالآشوريين (ورثة الحضارة الأكادية والبابلية) والعيلاميين (من الفرس القدماء) والليدييين (شعب في غرب آسيا الصغرى)، ومن ناحية أخرى تُفرّق تلك الروايات بين شعوب متوافقة مع بعضها كالآشوريين والآراميين والكنعانيين، الذين شكّلوا خلال ثلاثة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح أمة واحدة…أما سبب إقصاء الكنعانيين فيعود إلى العداء الواضح من قبل كُتّاب التوراة لهم كشعب متحضّر ومالك أصلي لـ”أرض كنعان”، ويجدر بالذكر أننا نجد أصداء عداء التوراة للكنعانيين في جل أسفار هذا الكتاب، ويعكس هذا الحقد على “الكنعاني” خطاباً توراتياً مألوفاً سبّبته صورة الكنعاني المتحضّر المتفوّق، كما ذكرنا، الأمر الذي تعكسه أسفار التوراة، في الوقت الذي تشير فيه إلى الفشل الحضاري لأفراد قبيلة “بني إسرائيل”، ومستواهم كفئة لا تعريف حضاري لها في وثيقة التوراة، كما لا تعريف لها في وثائق الشرق القديم ومكتشفاته.
ومن جانب آخر، فشعب بني “عابر” المُدرج في قائمة الأنساب التوراتية كشعب “سامي”، لا وجود له سوى في روايات التوراة، وليس له على الأرض أي معطىً أثري أو لغوي للدلالة عليه…وعبثاً حاول أكاديميون إقرار وجود (العبرانيين) أو كما سمّوهم (الإسرائيليين القدماء) في فلسطين، معتقدين –بدون أدلّة- أن الفترة الواقعة بين 1500 و1200ق.م، هي الفترة التي حدث فيها خروج “بني إسرائيل” من مصر إلى فلسطين بقيادة موسى التوراتي، وهي معلومة من التوراة ليس لها أساس تاريخي أو أثري، فموسى مصري وليس يهودياً، وباعتراف التوراة، استُثمر لتصوير (هجرة عبرانية) أي خروج مزعوم لـبني “إسرائيل” من مصر إلى فلسطين… وقد ذكر “سيجموند فرويد” أن موسى لم يكن يهودياً بل مصرياً جعل منه كُتّاب التوراة يهودياً لأغراضهم الخاصة، كما أن موسى لم يدخل أرض فلسطين ولا يُعرف قبر له حسب التوراة.
ومن ناحية أخرى، لا توجد أية وثيقة قديمة تؤكّد وجود “إسرائيليين قدماء”، أما كتاب التوراة فيشير فقط إلى “مهاجرين آراميين إلى أرض كنعان”، أُطلق على أحدهم -وهو يعقوب- اسم “إسرائيل” بموجب رواية خرافية لكاتب سِفر التكوين، على أن الحديث عن هذه الرواية الخرافية يتم دائماً في ضوء التوراة، وهو لا يدعو إلى إطلاق عبارة “الإسرائيليين القدماء” على من ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم بصيغة “بني إسرائيل”، والذين –في ضوء التوراة- لا يبدون شعباً، لأنهم لم يحققوا شروط الجذور والأصول واللغة الخاصة والمنجزات الحضارية والدولة والتقاليد والاستمرارية.
وأثرياً، وفي إطار نفي وجود ما سمي بـ”إسرائيليين قدماء” في فلسطين، نفى الباحث “توماس تومسون” وجود علاقة تاريخية بين حريق مملكة حاصور الكنعانية الفلسطينية في القرن الثالث عشر ق.م (العصر البرونزي المتأخر) وأي من المستوطنات الجديدة في العصر الحديدي الأول، تلك المستوطنات التي حاولت المدرسة الإسرائيلية والتوراتية ربطها بادّعاء وجود “استيطان إسرائيلي أو عبراني قديم” في فلسطين، وهو ادّعاء لا شواهد أو أدلّة عليه، وقد دحضه الباحث “تومسون”، وأرجع آراء الباحثين الاسرائيليين والتوراتيين إلى “الالتزام الإيديولوجي الديني المسبق لديهم بالربط بين عصر الحديد وما يسمى بـ”إسرائيل”…أما عصر الحديد (بدءاً من عام 1200 ق.م) فهو عصر “فلستي” كنعاني، ولا وجود أو دور لما سمي بـ”إسرائيليين قدماء” فيه، فالدور الحقيقي في فلسطين -بدءاً من عصر الحديد- يعود إلى الفلستيين الكنعانيين الذين عادوا إلى فلسطين القديمة من بعض جزر المتوسط بعد هجرتهم إليها، فاندمجوا مباشرةً بشعبهم الكنعاني ورفعوا مستوى الحضارة الكنعانية من “البرونز” إلى “الحديد”.
موضوع اللغات المسماة خطأً بـ”السامية”:
بسقوط النظرية “السامية” وتسمية شعوب المنطقة بها، فإن مصطلح اللغات “السامية” يسقط أيضاً في المشرق القديم، فتلك اللغات هي لهجات تنتمي إلى لغة أم، توحّدها على مستوى الجذور والقواعد والمفردات، فثمة صلات كبيرة بين العربية والأكادية والإبلائية والكنعانية والآرامية…أما “عبرية التوراة” فهي لهجة كنعانية (شفة كنعان) حسب شاهد سفر إشعياء…وهذا الإقرار التوراتي–وغيره- يلغي تماماً أية مقولة تتحدث عن أصول عبرية أو يهودية في مجال لغة المشرق القديم، المسماة خطأ بـ”السامية”.
خاتمة:
إن الدارس بتعمُّق لأي طرح توراتي إسرائيلي مشبوه، فيما يخص تاريخ فلسطين والمشرق القديم، سيكتشف سخافة الطرح وحججه الضعيفة…أما الصهاينة فيعتمدون في إيصال خطابهم على عدوانية مواطنيهم وتعاطف الغرب وخشيته في كثير من الأحيان من الرفض والمناقشة بسبب عقدة الخوف من اليهود…فمن يجرؤ في الغرب اليوم على مناقشة موضوع “السامية” من الناحيتين التاريخية والأثرية، أو الحديث عن أن كل شعوب الشرق القديم قد تركت أدلّةً كتابيةً حقيقيةً على أسمائها، إلاّ “سام” و”الساميّون” المزعومون؟!
الحواشي