كان تأسيس محكمه العدل الدولية في لاهاي- هولندا جزءًا من النظام العالمي الذي أقيم إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، وباعتبار المحكمة السلطة القضائية العليا في الحكومة العالمية، فيما مثّلت الجمعية العمومية للأمم المتحدة سلطه تشريعيه منقوصة، وأمّا مجلس الأمن فهو أقرب الى السلطة التنفيذية أو الأخ الكبير والتي يكون فيها متساوين أكثر من غيرهم حسب قول وتعبيرات جورج أورويل في روايته الشهيرة مزرعة الحيوان أو رواية 1984.
أمام ما حصل ويحصل في غزة خلال المئة وخمسة عشر يومًا من قتل ودم ودمار وجوع ومرض وهدم طال المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، كان يجدر بأن يتوجّه الى محكمة العدل الدولية من يدّعي وحدانية ومشروعيّة التمثيل الفلسطيني، وأن يتحرّك في كل اتجاه لوقف المجزرة، وبما فيها المحكمة الدولية، وكان يجدر بمن يريد أن يتنطّح لزعامة العالم العربي والإسلامي أن يتحرّك، ولكن للأسف فقد كان هؤلاء ينتظرون أن يقوم “الإسرائيلي” بما هم عاجزون عن القيام به في القضاء على المقاومة والراحة من وجودها المزعج لأجنداتهم. هذا العجز ترك فراغًا سرعان ما ملأته دولة جنوب أفريقيا.
سارت دوله جنوب أفريقيا بالطريق نحو المحكمة الدولية بحذر ومهارة وباتباع معايير دبلوماسية وقانونية، فقد كانت تخشى أن تقوم المحكمة الدولية بردّ الدعوى تذرّعًا بحجّة أن لا نزاع بين الدولة المدّعية، جنوب أفريقيا، و”إسرائيل”، لذلك بدأت جنوب أفريقيا خطواتها مبكرًا بمراسلات دبلوماسية بين وزارة خارجيتها ووزارة الخارجية “الإسرائيلية” قالت فيها أنّها تعترض على ما تقوم به “إسرائيل” في قطاع غزة من قتل وحصار وتجويع وهدم مستشفيات، وأنّها تعتبره عملًا من أعمال الإبادة الجماعية، فكان رد وزارة الخارجية “الإسرائيلية” أن قالت أنّ دولتها تقوم بالدفاع المشروع عن نفسها، مقدمةً شرحًا طويلًا لما اعتبرته عدوانًا وحشيًا قامت به المقاومة في غزة صبيحة السابع من تشرين الأول، مردّدة مجموعة من الأكاذيب حول قتل الأطفال وقطع الرؤوس واغتصاب النساء. وبعد مراسلات عديدة وأخد ورد، أصبح بإمكان جنوب أفريقيا الادّعاء بأنّ نزاعًا بينها وبين إسرائيل قد حصل بموجب هذه المراسلات، الأمر الذي يجعل من حق أحد المتنازعين الذهاب الى المحكمة الدولية.
انتظر العالم وتابع إجراءات المحكمة الدولية، واختلفت التقديرات بين المتفائلين والمتشائمين، وقد يكون من السذاجة السياسية والحقوقية توقّع أنّ قرار المحكمة، مهما بلغ توافقه مع رؤانا وأمانينا، سيحرّر فلسطين، أو أنّه سيؤدّي الى توّقف الحرب على غزّة وأهلها الذين يعانون من هذه الإبادة الجماعية قتلًا وجوعًا ومرضًا، ولعلّ من لم يعجبه القرار قد كان يفترض ذلك.
القرار تجدر قراءته بواقعية، وعدم تحميله أو تحميل المحكمة الدولية فوق ما تحتمل، فالقرار حجر في بناء كبير ونقطة في بحر إنجازات واسع، وهو قرار مهم حتى ولو كان محدودًا في المدى القصير، وتجدر رؤيته وفق نظرية طريقة النظر الى الجزء المملوء أو الجزء الفارغ من الكأس، وهنا لا بدّ من الإقرار أنّ الكأس شبه الفارغ قدر ارتفع منسوب السوائل فيه ولو بمقدار قليل نتيجة قرار المحكمة الدولية التي ترجّح أنّ شبهة إبادة جماعية ممكنة، وأنّها تطالب بتدابير لوقف هذه الأعمال العدوانية، وهذا أمر جيّد ويمكن البناء عليه بطلب تفسيرات تتقدّم بها دولة جنوب أفريقيا للمحكمة، تفسيرات للقرار القضائي حول ماهيّة هذه التدابير. وبما أنّ “إسرائيل” وحكومتها تريد القول أنّها غير آبهة بالقرار ومستمرة في عملياتها العسكرية فهذا يعني أنّ “إسرائيل” تنتهك قرار المحكمة الدولية وأوامرها القضائيّة. وهذا القرار سيفتح الطريق أمام نظر محكمة الجنايات الدولية باستدعاء وزراء وجنرالات وضباط “إسرائيليين” للقضاء. ستضطر الدول التي تدعم “إسرائيل” وتموّل هذه الحرب المجرمة على التصرف بحذر كي لا تكون شريكًا في هذه الإبادة الجماعية.
إنّ وضع “إسرائيل” في دائرة الاشتباه هو بداية العدّ التنازلي، اذ لم يعد أمامها قمم أعلى يمكن الوصول إليها. من الصحيح أن يغضب البعض من هذا القرار، فالجميع يبحث عمّا يوقف هذا الجنون الذي لا علاقه له لا بالحرب ولا بالثأر ولا بمصالح الدولة، وإنّما هي شهيّة القتل والإبادة التي ميّزت لا الدولة، و إنّما الفكر والثقافة عبر تاريخ طويل ومنظومة إيمانية دينيّة.
سعادة مصطفى ارشيد
جنين – فلسطين المجتلة