سابقة خطيرة… موازنة دولرة الضرائب وتقويض القدرة المعيشية

سابقة خطيرة… موازنة دولرة الضرائب وتقويض القدرة المعيشية

لاشكّ في أن موازنة العام 2024 بعيدة كل البعد، من حيث الشكل والمضمون، عن موازنة بلد على شفير الإفلاس، وكأن من صاغ المشروع تناسى حدّة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الواقع المعيشي المؤلم، لا بل على العكس تتضمّن هذه الموازنة عدد كبير من البنود الضريبية التي من شأنها أن ترفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وبالتالي المزيد من إفقار الناس في ظلّ حرمانهم من أي شبكة أمان اجتماعي ومن دون تأمين الاحتياجات الرئيسية اللازمة لأبسط مقوّمات الحياة الكريمة.

أولاً، إن الموازنات العامة التي دأبت وزارة المال على إعدادها في الأعوام الأخيرة وتحديداً موازنتي العام 2023 و2024، تفتقر لأي خطة أو رؤية اقتصادية، أو حتى فذلكة تحدّد أبرز المؤشرات الماكرو اقتصادية كالمعدل الوسطي لسعر الصرف التي احتسبت على أساسه الإيرادات والنفقات، حجم الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي ونسب التضخم المتوقعة خلال العام 2024. والأخطر هو غياب الأرقام الفعلية لعامي 2022 أو 2023، إذ اكتفت وزارة المال بذكر الايرادات المحصلة عن العام 2021 على سبيل المقارنة وهذا أمر بغاية الخطورة لأن تقييم الضرائب والإيرادات المقررة على سبيل المثال عن العام 2024 يجب أن يتمّ بناءً على ما حصل في العام السابق وليس عن العام 2021 حين كان البلد خارج من إنفجار المرفأ في حين أن تضخم الأسعار لم يكن بهذا الحجم وأن سعر الدولار كان يقارب الـ24 ألف ليرة.

ثانياً، إن مشروع موازنة 2024، هو مشروع الضرائب المعدلة والمستحدثة بامتياز، دون أي مراعاة لمبدأ العدالة الضريبة والمساواة بين المكلّفين، إذ تلحظ الموازنة العام ارتفاعاً في الإيرادات العامة نتيجة ارتفاع الإيرادات الضريبية بحوالي الضعف تقريباً. عليه، فإن موازنة 2024 تفتح الطريق أمام دولرة الضرائب والرسوم في سابقة هي الأولى من نوعها وتحصيلها بالدولار بعدما كانت الليرة هي العملة الرسمية الوحيدة في غالبية تعاملات الدولة مع المكلّفين بالضريبة، كالحصص والأرباح التي تعود للدولة اللبنانية من استخراج النفط ومشتقاته وبيعه، وإيرادات ألعاب الكازينو بالعملة الأجنبية، وحصة الدولة من الشراكات مع القطاع الخاصة، والضريبة المتوجّبة على إيرادات رؤوس الأموال المنقولة الأجنبية، والضرائب والرسوم المتوجّبة على الشركات صاحبة الحقوق البترولية والشركات صاحبة الحقوق البترولية المشغّلة، والرسوم الجمركية، ورسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد، والرسوم التي تستوفيها مؤسسة كهرباء لبنان ورسوم المطارات، وغيرها من الرسوم الأخرى. ناهيك عن رفع الضريبة على القيمة المضافة لتطال كافة اللبنانيين من دون استثناء، بمعيشتهم واستهلاكهم وحياتهم اليومية، في حين تم استحداث ضرائب ورسوم جديدة على مجموعة كبيرة من الخدمات والطلبات، لاسيما منها كل ما يصدر عن وزارة التربية والتعليم العالي وغيرها من الرسوم المقطوع على كل دعاوى التفريق والطلاق والخلع وإثبات النسب ونفيه، وإثبات الزواج وحصر الإرث وفرض رسوم على سلع مستوردة تتجاوز 1500 سلعة، منها نعوش الموتى ولحوم وزيوت وخضار ومواد غذائية وشوكولا والهدايا والمستوردات الشخصية وحفاضات الأطفال وكافة أنواع الأقلام والقرطاسية وأجهزة علاجية وأجهزة تنفس ومستحضرات صيدلانية وأدوية وغيرها. أما الأخطر فهو محاولة فرض رسم جديد بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة مقابل تسريع إنجاز المعاملات على أن يتمّ توزيع إيراداته بين موظفي المديريات وخزينة الدولة. وهي محاولة علنية لتشريع الرشاوي في الإدارات العامة، ما يفتح الباب أمام الاستنسابية في التعاطي مع معاملات المواطنين، وكأنهم بذلك يحاولون تشتيت أنظار موظفي القطاع عن تصحيح الأجور الغائب كلياً عن مشروع الموازنة.

ثالثاً، اعتمدت الموازنة العامة بشكل أساسي على الزيادات الضريبية، وكأن العجلة الاقتصادية بأحسن حال والاقتصاد الوطني في نمو إيجابي جيد، في وقت قد تستمر معظم مؤسسات الدولة بالإقفال في ظلّ عدم تصحيح أجور موظفي القطاع العام، وبالتالي فإن كل هذه الإيرادات الضريبية قد لا تبدو واقعية أو يمكن تحصيلها خاصةً في حال لم تتفعّل العجلة الاقتصادية كما يجب، وفي حال افتقرت مؤسسات الدولة إلى العمل المنتظم. أضف إلى ذلك، لم يرد في المشروع أي بند لإلغاء الإعفاءات الاستثنائية التي تتيحها القوانين للمسؤولين السياسيين وموظفي الفئات الأولى والجمعيات الدينية والاجتماعية، كما وأنها لم تبحث عن مصادر تمويل جديدة خارج إطار سحب المزيد من الضرائب من جيب المواطنين والمؤسسات الفاعلة، مثل إعادة هيكلة القطاع العام المتخم وغير المنتج، تفعيل جباية الكهرباء، مكافحة التهرب الضريبي والجمركي، أو حتى التطرّق إلى ملف الأملاك البحرية وغيرها من المصادر الأخرى التي يمكن أن تدرّ إيرادات فعلية لا ترهق المواطن بشكل عام.

رابعاً، لا تلحظ الموازنة العامة نفقات استثمارية هامة وهي اكتفت فقط بتحديد مبلغ ضئيل جداً، ما يتعارض مع إمكانية وضع خطة تعافٍ اقتصادي مبنية على تعزيز الاستثمار في المجال الانتاجي، وتحديداً الزراعي والصناعي، لاسيما وأن التحدي المحوري في سبيل تحفيز النمو الخاص يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة المرتبط بتحسن بيئة الأعمال من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال، والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.

خامساً، تفتقر هذه الموازنة إلى الإنقاق الاجتماعي والصحي والتربوي مع تخصيص اعتمادات هزيلة لوزارات الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية. ويأتي ذلك في وقت يتداعى فيه نظام الرعاية الصحية اللبناني وسط أزمة اقتصادية طاحنة أدت لنزوح جماعي لآلاف الأطباء والممرضين وإجبار مستشفيات خاصة على إغلاق بعض أقسامها بما شكل مزيداً من الضغوط على القطاع الصحي الحكومي الذي يتعرّض بالفعل لما يفوق طاقته، بالتوازي مع انهيار مماثل للنظام التربوي في المؤسسات الحكومية.

في الختام، إن إقرار الموازنة العامة حاجة ملّحة لانتظام المالية العامة في لبنان، ويحمل في طيّاته بلا أدنى شك إشارات مؤاتية للأسواق والمستثمرين ويساهم في تعزيز عامل ثقة العالم الخارجي بالاقتصاد الوطني. إلا أنه يجدر الذكر أن الموازنة العامة في المطلق ليست فقط وسيلة لحصر احتياجات الحكومة وإيراداتها، بل لها وظائف جوهرية أخرى وبالأخص استخدامها كوسيلة لضبط السياسة المالية للبلاد ولتحقيق أهداف الدولة وتنفيذ سياستها الاقتصادية. وتكمن أهمية الموازنة العامة في دورها كأداة رئيسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويشكل إعدادها رافداً أساسياً في الجهد التنموي وفي تلمّس احتياجات الدولة ومواطنيها. في هذا السياق، إننا نرى أن إقرار الموازنة العامة بحدّ ذاته ليس كافٍ إذ يجب أن يترافق مع تقدّم مرجو على مسار الاصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها من الاصلاحات الاقتصادية إلى المالية والإدارية منها، والتي من شأنها أن تعزّز النمو الاقتصادي وتحفّز كل من الإنتاجية والعجلة الاقتصادية وتحدّ بالتالي من الاختلالات القائمة على صعيد القطاع الخارجي والمالية العامة. ___________________________