رسول الحق

“رسول الحق” فهي ملخص لحياته، أمهد لها بالحكاية التالية.
وحكاية هذه القصيدة تبدأ مع رفيقنا الراحل حليم عودة في بوسطن أثناء زيارة لي الى تلك المدينة سنة 1987. يومها، قال لي الرفيق حليم، “سوف أخبرك حكاية لا تعرفها عن والدك نقلا عن أحد المعتقلين بعد انقلاب سنة 1961.” وتابع نقلا عن لسان المعتقل فقال: “كانوا يعذبوننا كل يوم، بالضرب والتعليق بالمقلوب وقلع الأظافر والكهرباء والشتائم. واعترف، أنا الذي كنت آنذاك في عز الشباب وذو بنية قوية، أنني لم أتمالك نفسي من الصراخ مع أول كفٍ أو أول لسعة كرباج.” وذات يوم، سمعنا بداية الحفلة اليومية من غرفة التعذيب، وكنت في القاووش الأقرب اليها.
بدأت الحفلة كالعادة بالشتائم والضرب ولسع الكرباج، ولكن الفارق الوحيد بين تلك الحفلة وكل اللواتي سبقنها أننا لم نسمع صراخ المضروب المعذب. كنا نسمع السجّان يصرخ، “ما رح تقول آخ يا أخو الش….، ايه خود لكان”، ويزداد جنون الضرب ولكن لا صريخ. اخيرا، اعتقدنا أنا والرفقاء في القاووش أن السجين لا بد وأن يكون قد قضى تحت التعذيب، فانزوى معظمنا ولكنني بقيت بالقرب من “الشراقة” اي الكوة الصغيرة في باب القاووش. بعد فترة خلتها دهرا توقف الضرب وفُتح الباب. ولا اخفيك أنني شعرت أن قلبي توقف توجسا إذ كنت بانتظار إخراج جثمان الرفيق الشهيد. بعد لحظات سمعت صوت شحط على الأرض فنظرت من الشرّاقة لأرى سجّانين يجران الأمين عجاج من رجليه وهو مدمى من رأسه الى أخمص قدميه. ولكنه كان حيا، بل أخال انني رأيت بسمة على شفتيه. لا أخفيك انني شعرت بالخجل. فهذا الرجل الذي يكبرني اقله بثلاثين سنة لم تصدر عنه صرخة واحدة بالرغم من كل ما تعرض له في حين كنت أنا أصرخ من اول كف.” انتهت رواية الرفيق حليم.
عدت الى أتوا بعد ايام، وأذكر، انني فيما كنت اقود السيارة بسرعة زائدة شوقا للوصول الى البيت ورؤية الأهل، لم تبرح مخيلتي صورة طفلتيّ آمال ودنيا. وكنت لا اصدق ان أصل البيت لأضمهما الى صدري وأشمهما. ولكن في خضم هذه العواطف، تذكرت حكاية الرفيق حليم، فجمدت، وسألت نفسي، إذا كنت أنا، الذي غاب عن ابنته لمدة أسبوع يشعر هذا الشعور، فما كان شعور اهلي وخاصة الوالد، حين كان يغيب في السجن لسنة وسنتين أو أكثر احيانا. شعرت بالخجل.
المهم، وصلنا البيت وفي المساء كان لي حديث طويل مع الامين عجاج بدأته برواية رحلة مشاعري من شوقي للطفلتين، الى شعوري بالخجل ثم سألته: “إذا كان هذا شعوري بعد غياب اسبوع، كيف كنتم تصبرون على تلك الفرقة عن اولادكم؟” أجاب: “كنا على يقين أن هناك فاتورة مستحقّة ويجب دفعها إذا أردنا تحقيق أهدافنا. السؤال كان من سيدفع هذه الفاتورة نحن ام أنتم. وكنا نعرف اننا إذا لم ندفعها سوف تكبر وعليكم انت مواجهتها. اما إذا دفعناها نحن، فربما، ربما، نوفرها عنكم. والجواب يا بني بديهي، فما من أب يحب اولاده يقبل ان يحمّلهم عبء فاتورة بل يفضل ان يدفعها هو.”
استطردت في الحديث واخبرته بما سمعته في بوسطن عن المعتقل وطلبت تأكيدا منه. لم يجب مباشرة، بل سأل، “مين خبرك”؟ اجبته، فقال: “يا بني، في قلب كل جلاد نوع من السادية تطرب لسماع صراخ المعذبين وأنا لم اكن في وارد ان أُسعد معذبي أو اشفي غليل ساديته.” وسكت. قلت له: “أنت جبار، تحيا سوريا.” ومضيت الى نوم كنت اشتهيه.
استيقظت باكرا في صباح اليوم التالي لأجد الأمين عجاج منتظرا أمام ركوة قهوة عرمرمية أعدها. جلست قبالته فقال لي، “يا ديوس، انت نمت وأنا قضيت الليل سهران. تفضل. هذه نتيجة السهرة. وكانت هذه القصيدة بعنوان “رسول الحق” وكأنها جواب عن كل اسئلتي. بل لعلها كانت باختصار قصة حياته.
كان ذلك ذات صباح من خريف سنة 1987، وكان عمر الأمين عجاج 79 سنة، وقد توفي بعدها بثلاث سنوات.
رسول الحق
“أنا جبّار” سمّاني غريمي
لكحني* وصابني بزخم الشكيمه
فتحلي غْلاف أيامي القديمه
نفخ روح الصراحه والعزيمه
أنا تلميذ – دادي – بالمبادي
وبلا هالمدرسة ما ليش قيمه
*
أنا تلميذ ومخلّص ضميري
عطيت العمر والدمّات ميري
القمر والحق والمبدا سميري
أنا ربّيت حدوا عالخميره
بمعاجن دار هالنهضه العظيمه
*
أنا تلميذ عالميثاق ماضي
بطريقي عا دروب الحق ماضي
بحضاره كنوزها من عهد ماضي
أنا جبّار طاغي وسيف ماضي
على الاخصام والطغمه اللئيمه
*
أنا جبّار قهّار الاعادي
أنا روح المبادي والسعاده
تا اكسر قالبي ما ليش عاده
أنا الناطور عا كرمة سعاده
مع العرزال والخيمه اليتيمه
*
أنا تلميذ شهدتلي فعالي
يتيم البيّ قيدوم الفعالي
أنا ما كنت عا مخلوق عاله
سبقت ألوف – أصحاب المعالي
الغرضهم بس تحصيل الغنيمه
*
أنا الحرمان طاغي عْلى جروحي
عطاني للجروح علاج روحي
عَبُعْدو الهجر دمّرلي صروحي
صلبت الكون عا نغمات روحي
ونفاق العاطفه بعدو غريمي
*
أنا طيّار برفوف الطليعه
أنا خيّال والخضرا طليعه
أنا جزّار عالطغمه الخليعه
أنا بطّاش وبهد القليعه
إذا بترجع لعادتها حليمه
*
أنا تلميذ خط الحرف ماسد
أنا جبّار طاغي عالمفاسد
عدوّي كل طاغي كل فاسد
كلامو بين اهل الحق كاسد
فسد من بطن امّو من البشيمه
*
أنا نقّاد والانصاف بدّي
الحقيقه عا معاني الكون بدّي
بكفي مطرقه وحدّي مهده
أنا شو همني الخصيان ضدي
أنا ماشي الطريق المستقيمه
*
أنا تلميذ والموسم جَبَينا
العقيدة امّنا المبدا ابينا
عقل جبّار هادينا، نبينا
بوحدة روح ومحبه ربينا
مع الطلاب ممنوعه الشتيمه
*
أنا الكرّام ومقص الشحاله
بكفّي من البدايه وهيك حالي
اذا بيمر نمشه، خيال، حاله،
مصير الشر عا قاضي الإحالة
تتبقى جنينتو خضرا وسليمه
*
أنا تلميذ – داعي – والمهمّه
خطيره صارخه وحمله مهمّه
أنا بها المدرسه بييّ وامّي
ومصيري، بسورية تتعود أمّه
مع التاريخ ما كانت عقيمه
*
أنا تلميذ من وحله وبيله
نشلني بزخم غيّرلي سبيلي
جذبني من العشيره والقبيله
خطفني شموخ أخلاقو النبيله
وسحرني بلطف بسماتو الكريمه
*
أنا مشعال هادي بكل نادي
عَرَاس الطود بفكاري بنادي
يَرَاعي شْفار أمضى من الهنادي
جذب أجيال ناداها المنادي
عخطّ النور والنهضه الرحيمه
*
أنا مجنون والطلاب جنّو
العسل والشهد بالقفران جنّو
لو انن ياخدوا – العقّال – منّو
الجنون، ويشربو الترياق منّو
ما وصلو للدمار وللهزيمه
*
أنا تلميذ فوق التل راعي
بمراعي خضر والموكب مراعي
وفضا…والزوبعه الحمرا شراعي
على نغمات منجيره ويراعي
وحنين الناي والنغمه الرخيمه
*
أنا تلميذ من شلال فاير
مع النجمات فوق الغيم طاير
بروحي عالشواطي وعالمغاير
عكل الكون بالنغمات داير
أنا شاعر، أنا عبقر نديمي
*
أنا بتذوب روحي بالمحبّه
إلي عا كل بيدر غمر – حبّه
أنا اجيال بالنهضه مربي
أنا جارح، أنا جادلت ربّي (اشارة الى قصيدته يا الله انكنك الله)
عن الكفّار والزمره الاثيمه
*
أنا تلميذ – مقلعجي – دعاني
حفظت الدرس ورموز المعاني
أنا جبّار والواجب دعاني
قضيت العمر بالمضمار عاني
الغشيم المدّعي – وروحو الغشيمه
*
أنا تلميذ رسمالي المبادي
الاصيله – بالرساله وهيك بادي
أنا مش إبن صحرا وإبن بادي
النعيم بسوريه وإلها العباده
بزقّوراتها العالي الفخيمه
*
أنا نجّار والمنشار حدي
ومطارق للجهاد شفار حده
عطاني عالخريطه تخوم حدي
أنا سهران مع سبتي وحدّي
تترجع سوريه الوحده القديمه
*
أنا الناطور والعرزال داري
بمبادي كنزها غيّر مداري
بجفني كنت هالاغصان داري
إذا مرّ النسيم، ومين داري
بجريمه بتحرقو الإيد الرجيمه
*
أنا ما كنت بالمضمار هادي
الوديعه الغاليه والروح هادي
وحياتي، للإجا فادي وهادي
تَنِفْدي سوريه بعزّ الشهاده
وعلى دمّاتنا بتعمل وليمه
*
أنا تلميذ فادي كان همّو
الرساله الكامله وعرزال ضمّو
العطر عالشيح والوزّال شمّو
عندما فار عالرملات دمّو
زوابع نار هبّت عالجريمه
*
أنا تلميذ وكتابو كتابي
بحضن الكوخ ديوان الكتابه
بْحَرِفْ وشْراع فينا المجد رابي
بفيافي وعالبحور وعالروابي
غمرنا الكون بشعاع المهابه
بعقيده، بفكر، بغمار، بمرابي،
بمناسف، بالكواير والخوابي
إذا عفنا القرايه والكتابه
الدني بتغور وبتصبح عديمه
*
أنا تلميذ بالدرس المقوّي
عطاني من لهيب الروح قوّه
انفلش عا كل قمه وكل هوّه
قمر وهلالنا بوهجو مضوّي
بدمّو ترابنا القدسي مضوي
عطاهم درس خالد بالمروّه…
وهدر وجدان بالصوت المدوّي:
أنا تلميذ والجبار هوّي
رسول الحق والنهضه العظيمه