أشكال الدولة عند سعاده

إنّ الرعب والوهم والحياء تجاه الطبيعة الفائقة القوة، ولّدت لدى الإنسان الفطري تصور قوى تسيطر على الطبيعة والروح الإنسانية، ولمواجهة هذه القوى الخفية، قام الإنسان بالتخطيط لحياته، ومن هنا بدأت العقائد الروحية، وصولاً إلى بلوغ فكرة الله، وبدأت معالجة هذه الفكرة نفسها لتجعل من الدين المثال الأعلى الجميل، خالياً من صور الرهبة والتهويل، وأدى تصور هذه القوى الخفية المخيفة إلى عقائد غريبة كعبادة الأجداد، وتصور عالم أرواح تأتي منه الروح وتعود إليه، فنشأ سلك السحرة والعرافين، فكان لهم تأثير كبير على الناس، وتمكنوا من إنشاء عادات جديدة، اتخذوا من خلالها لأنفسهم صلاحية إصدار الأحكام باسم الأرواح المحجوبة باسم الآلهة، وبدأ التشريع يستند إلى السحر والعرافة، وكانت القوانين تُسن من مجرد سابقة أو وحي من عالم الأرواح تعزى إلى بعض الجدود المشهورين، لأن الأجداد مقدسون وآلهة، وكل ما كان جيداً لهم يجب أن يكون جيداً للأبناء، كما أن الاستنباط الفردي كان سائداً أيضاً، فقد يقترح أحد الشيوخ رأياً قد يكون بحثه مع هيئة شيوخ عشيرته، فإذا لاقى اقتراحه الاستحسان صار قانوناً، أو يقوم مقام الرأس في طرح الاقتراح الساحر أو العرّاف الذي يدعي أنّه قد رأى في نومه أو أنّه قد أوحي إليه.

للدولة ثلاثة أشكال رئيسية هي الديمقراطية والأوطقراطية والأرستوقراطية.

في الشكل الديمقراطي، تتكون الدولة من الرأس، ومجلس الشيوخ الذي يتألف من رؤساء بيوت وعائلات وعشائر القبيلة، ويتقيد الرأس برأي هذا المجلس، وفي الدولة القبيلة لا سبيل لاجتماع الشعب، فيكون الشأن دائماً للشيوخ، وهو من خصائص دول الشعوب الفطرية، التي لم ترتقِ إلى مستوى المجتمعات المرتقية العمرانية، وهو شكل يجمع بين شكلين، أرستوقراطية السن والتمثيل الشعبي، فامتياز الشيوخ يكون طبقة أرستقراطية، ويكتسبون صفة التمثيل والنيابة، لأنّ علاقتهم بالشعب متينة جداً، وظهور هذا الشكل في أقل الشعوب ثقافةً يعطينا الدليل على أسبقية الديمقراطية.

إنّ الحرب هي أدعى الأمور إلى نشوء الشكل الأوطقراطي، لأن الشكل الديمقراطي يدل على انصراف إلى نوع من الحياة بعيد عن الحرب والفتح، والملكية الصغيرة نشأت على يد بطل حربي منتصر، ونجد في بعض القبائل تنظيماً ثنائياً لحالتي السلم والحرب، فلحالة السلم رأس ضعيف القوة، ولحالة الحرب رأس واسع السلطة، ومن تحول السلطة إلى الثبات والاستمرار نشأ الشكل الأوطقراطي، ولا تعود هناك حاجة لاستمرار الحرب، لأنّ الرأس يصبح مُطاعاً من الجميع، وفي يده الحياة والموت، والمبرر لوجوده هو نسبه أو ثروته أو ظهور سلطة له على القوى الخفية من عالم الأرواح، وفي بعض الأحيان يكون الرأس سراً دينياً، وقد يحتجب بشخصه عن الناس، وكل هذا لا يمنع أن يكون في الشكل الأوطقراطي مجال للاجتماع الشعبي العام، وفيه عادات قاسية كإقصاء المراهقين إلى البرية ليتعودوا الخشونة، ليتكون منهم نوع من جمعية تضمهم في أحوالهم الخاصة، ثم لا تلبث أن يصير لها شأن في المجتمع، ويظهر الإقطاع في الدول الأوطقراطية التي تتغلب على ما جاورها فيصبح طابعها استبدادياً، حيث يتولى رجل من أهل الأمير بالمقاطعة الموكلة إليه، يأمر وينهى ويجبي كيفما شاء، وقد تدخل عوامل تضعف الاستبداد، كاجتماع الأشراف وجود مجال لاجتماع الشعب، وضعف الأمير وعدم استطاعته على التحكم بالأمور بقوة، فنجد الديمقراطية في الدولة الاستبدادية، حيث تكون من حظ الفاتحين فقط، أما المغلوبون فعليهم الطاعة والخضوع.

من الشكل الديمقراطي والشكل الأوطقراطي، نرتقي عبر الإقطاع للشكل الأرستقراطي، الذي ينشأ لدى أرقى الشعوب، وأكثرها ثقافة، والذين لديهم زراعة وإقامة، كما تنشأ البيوت التي تضم العبيد، ونجد لها ملكاً معه طبقة تُسمى طبقة النبلاء، تفصل بينها وبين العامة شقة بعيدة، ويرى الشعب أن للملك سلطة على الحياة والموت، كما يرون فيه سر القوة الإلهية، فلا يتقدمون إليه إلا ركّعاً، لكن سلطته تخف تجاه الأشراف الذين يؤلفون مجلس شورى يقيم بعض الحدود للسلطة المطلقة التي يتمتع بها.