حتى تفهم أسباب تقلب المواقف من موضوع الترسيم البحري بين لبنان والصهاينة سواء كان الموقف اللبناني أو الصهيوني، عليك أن تنظر إلى غيوم الشتاء التي تتلبد في أوروبا، وإلى الإتحاد الأوروبي الذي ترتجف عظامه ومعه الولايات المتحدة الأميركية خوفاً من حصول تقلبات في مواقف دوله من الصراع في أوكرانيا تضرب وحدته وترجع خريطته إلى ما قبل عام 1989 إلى حدٍ ما.
وفق إنقسام فريد هذه المرة، ليس بناءاً على الإيديولوجية، رأسمالي – شيوعي أو جغرافي شرق وغرب، بل بين دول رأسمالية تعارض أو تستدفئ من دول تعارض الهيمنة الأميركية ودول تستدفئ بالتبعية لها.
إخضاع الإتحاد الأوروبي أو تفتيته (التدويل المتوازن الأميركي الروسي في أوروبا من خلال الحرب في أوكرانيا)
تأسس الإتحاد الأوروبي في أوج مرحلة الإنفراد الأميركي بالعالم، وكان قيامه أمراً غير محبباً لصانعي القرار الأميركي، لذلك كان إخضاعه أولوية أميركية وذلك بالتدرج، ليتناغم قراره الرسمي أو موقف دوله الإفرادي (خاصة دول أوروبا الغربية) مؤيداً للسياسات الخارجية الأميركية.
فحصل الإخضاع عبر عدة أساليب:
1- تشجيع دول أوروبا الفقيرة من جهة، وتبني الإتحاد الأوروبي سياسة إعطاء عضوية الإتحاد لكل دول أوروبا الراغبة بالإنضمام إليه من جهة أخرى – منها دول أوروبية ضعيفة إقتصادياً إلى الإتحاد الأوروبي (أوروبا الوسطى – البلقان) – حمل إقتصاد الدول الأوروبية الكبيرة عبء النهوض بإقتصادات الدول الفقيرة والصغيرة ليتلاءم مستوى المعيشة مع دول أوروبا الغربية للحد من النزوح الداخلي الأوروبي إليها، من جهة وللتدخل لإنقاذ إقتصادات دول من الإفلاس كما حدث مع اليونان.
2- تسريع عضوية دول أوروبا الشرقية (دول الإتحاد السوفياتي السابق) في الإتحاد الأوروبي وإعطاء بعضها العضوية في حلف شمال الأطلسي على الرغم من أنها دول فقيرة وضعيفة إقتصاديا ولكن يشكل اتجاهها غرباً وإقبال الغرب على إحتضانها تهديداً لتجربة الإتحاد الروسي.
3- تحمل دول أوروبا وضمناً الإتحاد الأوروبي أعباء ملايين اللاجئين معظمهم هربوا من جحيم الأزمات التي إفتعلتها الولايات الأميركية أو تدخلت لاحقاً بها في دولهم، علماً أن معظم هولاء من اللاجئين العراقيين بعد إحتلاله من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والسوريين والليبيين الجزائريين والسودانيين واليمنيين والتونسيين بعد موجات ما سمي الربيع العربي.
كلها عوامل دفعت إلى عودة التأثيرالفاعل للأحزاب اليمينية المتطرفة خاصةً تحت تأثير ملف النازحين والمشاكل الثقافية والإقتصادية التي ترتبت عليه، كما يسجل أنها كلها معادية لفكرة الإتحاد الأوروبي لبعده الإشتراكي التشاركي بين دول أوروبا الفقيرة والغنية، فصارت وجوه اليمين مشهورة في فرنسا وإيطاليا وقبلها النمسا وصار عندهم تمثيل في البلديات والنواب ومرشحين رئاسيين وعادت النازية إلى التحرك في ألمانيا على الرغم من تجريم أفكارهم…. وما زال اليمين يتوسع في كافة أنحاء أوروبا. وكله يرفض الوحدة الأوروبية كما كان إنسحاب بريطانيا من الإتحاد منذ سنوات، حيث كانت آخر المنضمين وأول المنسحبين لغايةٍ في نفس أصحاب القرار البريطاني!!
4- زج دول أوروبية في مخططات الولايات الأميركية التوسعية من أفغانستان إلى العراق عبر صياغة عناويين ملفتة للرأي العام الأوروبي كحقوق الفرد والمرأة والأقليات (أغلب شعوب أوروبا تعتبر نفسها أقليات عرقية، دينية، ثقافية) أو مخيفة كحيازة دولة أسلحة دمار شامل وتهديدها للسلم العالمي والأوروبي ضمناً ومحاربة الإرهاب في أرضه قبل وصوله إلى ديار الإزدهار الأوروبي وربما تلفيق هجمات كيميائية عشوائية ونسبها إلى جماعات تتمركز خارج أوروبا.. كل هذه العناوين لضمان أكبر حجم تأييد أو عدم معارضة لهجمات الولايات المتحدة وإحتلالها لأفغانستان والعراق وإرسال قوات إلى سوريا.
روسيا العائدة والإتحاد الأوروبي الصاعد
مع تصحيح مسار روسيا الداخلي في بداية الألفية الثانية كان لزاماً على القيادة الجديدة المتمسكة بالرأسمالية الوطنية الروسية، العودة إلى التأثير في الساحة الأوروبية لحماية مصالحها الاستراتيجية – بشكل فاعل يتجاوز الموقف الرافض او المندد، إلى تحريك قوات عسكرية خارج أراضيها من أوستيا إلى سوريا ثم أوكرانيا- علماً أنها حاولت بناء تفاهم وشراكة مع الإتحاد الأوروبي لما فيه خير مصالحهما المشتركة ولكنه تبين لها أن معظم إتجاه دول الإتحاد الأوروبي يريد أن يأخذ من روسيا لصالح الحلف الأطلسي أكثر مما يريد أن يحقق مصلحته الخاصة سواء التلميح بزرع صواريخ في بولندا أو ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي.
لذلك سرعان ما تبدد هذا الحلم بعدما بلغ حجم التأثير السياسي الأميركي حجماً أكبر من حجم تاريخ الجغرافيا الأوروبية الروسية، بالإضافة إلى وصول شخصيات سياسية أوروبية يفوق ولائهم للسياسات الأميركية المصلحة الوطنية الذي ينتمون إليه، وخاصة في فرنسا مع وصول ماكرون وألمانيا بعد إعتزال ميركل وها هي إيطاليا تتمرد على الولايات المتحدة بوصول مرشحة ذات برنامج إصلاحي إيطالي لا أميركي في إيطاليا.
لذلك كانت المصلحة الروسية بأن يكون إتحاداً متضعضعاً في وجهها الآن، وربما عدم وجوده لاحقاً، أفضل لها من تعاملها مع إتحادٍ موحد، بل هي تفضل التعامل مع دول أوروبية ذات وزن وقوة إقتصادية بشكل مباشر دون تضييع الوقت مع الدول الصغيرة والفقيرة.
ترامب وروسيا
أدى وصول ترامب إلى سدة الرئاسة إلى كبح المحاولات الأميركية لحصار روسيا جزئياً وصار لقاء الرئيسين الروسي والأميركي أمراً إعتيادياً في المناسبات التي تجمع الرؤساء، وتحول الاهتمام الرئاسي الأميركي إلى الداخل الأميركي وإلى التناوش الاقتصادي مع الصين وتضخيم خطر كوريا الشمالية على السلم والأمن العالميين والحوار معها.
لكن سرعان ما عاد زخم العداء لروسيا في الخطاب الرئاسي الأميركي بعد طرد ترامب من البيت الأبيض ووصول بايدن الى السلطة الذي ينتمي الى المدرسة التقليدية في العداء لروسيا والتي تعتبر أن الخصم التقليدي للولايات المتحدة هي روسيا، فكانت مغامرة زالينسكي وداعميه الغربيين بإدخال أوكرانيا في الحلف الأطلسي الشعرة التي قسمت ظهر الصبر الروسي تجاه السياسات الأميركية في أوروبا.
تقييم المشهد الحالي
على عكس ما يقال أن هذا خاسر وذاك رابح، فإن المشهد الروسي – الأوكراني الغربي على أرض أوكرانيا هو مربح لروسيا وللولايات المتحدة الأميركية معاً كصفقة الترسيم بين لبنان والكيان الصهيوني!!
فقد حقق الروسي على عكس ما تردد الدعاية الغربية أهدافه في أوكرانيا، فقد سيطر على الاقاليم التي اراد ضمها، ووضع سقفاً للتماهي الأوروبي مع أهداف خصمه الإستراتيجي، حتى توالت صدف تسريبات أنابيب الغاز الروسية المغلقة بإتجاه دول أوروبية وتفجر بعضها بموقف شبيه بما يروى عن طارق بن زياد يوم أغرق قوارب العبور ليحفز الجيش على القتال وقال عبارته الشهيرة هاهو العدو من أمامكم والبحر من ورائكم فإلى أين المفر (وكأن الولايات المتحدة تقول لأوروبا لا خيار لكم إلا المواجهة).
وها هو الغاز الروسي يقوم بالروبل بدلاً من الدولار تحت طائلة القطع عن الدول الممتنعة عن تقويم سعره بالروبل الروسي، وحلقت أسعار الغاز عالمياً فصار الروسي يجني أرباحاً أكبر عبر بيع كميات أقل!!! فهل هذه خسائر روسية؟!!
كما كشف الروسي أمام الرأي العام الأوروبي والعالمي تردد الغربيين في رفع مستوى تدخلهم في الأزمة وبالتالي عدم جديتهم في دعم حلفائهم.
وهكذا حقق الروسي جملة أهداف إستراتيجية بخطوة تكتيكية محدودة حتى اللحظة، وكون احتياط مالي ضخم من العملات الأجنبية عبر فرضه على الدول الأوروبية شراء الغاز بالروبل (دول أوروبا التي تريد أن تشتري الغاز عليها أن تشتري الروبل بسعر السوق بعملاتها لتتم شراء الغاز الروسي) وهذا أدى إلى ارتفاع سعر الروبل بشكلٍ قياسي مقابل الدولار مقابل الدولار (وفي مواجهته رفع الأميركي سعر عملته بعدة خطوات والضحية هي اليورو الأوروبي.
ومع دخول فصل الشتاء ستتولد أزمة طاقة كبيرة بدأت تجلياتها تظهر بتقنين في المدن، تحديد لمناطق التجمعات المضاءة، تحديد لساعات التدفئة والإستحمام وقطع الأشجار للتدفئة والقادم أعظم، بعد قرار اوبك+ (اي دول اوبك وروسيا) بتخفيض الإنتاج بمليوني برميل لأن حاجات الدول اوروبية للمشتقات النفطية مرتفعة أساساً للتعويض عن النقص في الإمدادات الروسية وهذا ما بدأ يظهر بطوابير السيارات امام محطات الوقود في اوروبا وارتفاع سعر البنزين والمازوت في هذه الدول والتي تمتد لكيلومترات!!!
في المقابل لقد حقق الأميركي جملة مكاسب، أولها أنه أجبر خصمه على القيام بكشف أول خطواته وقطع أي إحتمال لأي موقف ألماني أو فرنسي بالخروج عن ألف باء الموقف الأميركي من الصراع في أوكرانيا، ولا بد أن الصناعات العسكرية الأميركية اليوم في أفضل أحوالها وأموال دافعي الضرائب الأميركي تصب في حسابات صانعي الأسلحة ومجندي المرتزقة، بالإضافة إلى تراجع قيمة اليورو لأول مرة في تاريخه مقابل الدولار كما أن أصوات وشريحة معارضي التورط في الحرب مع روسيا في أوكرانيا مرتفعة وتتسع ومنهم في أوروبا ومنهم من يدعو إلى الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي من أجل عودة الغاز الروسي إلى بلادهم.
لذلك فقد لا يضطر بوتين إلى تحريك جيشه لإسترجاع العديد من دول أوروبا كما فعل الإتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية لطرد النازيين من نصف أوروبا حينما إعتبر صراعاً وجودياً كما تعتبره القيادة الروسية اليوم، بل ربما يكتفي بإنتظار الجنرال الأبيض مع منخفضاته الجوية وعواصفه الجليدية التي لن تساوي بين دولة وجيش دافئ وقارة وشعوب باردة، ومن الطبيعي أن تحاول الولايات المتحدة اليوم أن تبيع أوروبا منتجاً أو أملاً مقابل ثروات أو المزيد من النفوذ كما فعلت إقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة إعمار ما دمره الصراع مع النازية وقطفت ثماره في حينه عبر إعادة إعمار أوروبا أو على الأقل إعادة تدفئتها.
خريطة حساسة تحكمها صراعات عرقية
تعتبر أوروبا ذات خريطة ديموغرافية معقدة وحالة من الاستقرار الهش المحكوم بهواجسٌ تاريخية تجعل الكثير من الدول – في حال إهتز الإتحاد الأوروبي بسبب المغامرات الأميركية – تعيد حساباتها وتعود لتلتحق بروسيا كما كانت في الماضي، ما عدا أوروبا الغربية ذات التاريخ السيء مع روسيا.
لذلك تسعى الولايات المتحدة أن تؤمن كميات من الغاز بالدرجة الأولى لدول أوروبا الغربية، لأنها الدول المضمون إلتصاقها بالتحالف مع الولايات المتحدة، وهذا ما سيسرع في حسم المشهد الأوروبي بالإنقسام بين دول غير معادية لروسيا من جهة وأوروبا الأطلسية من جهة أخرى.
وهكذا تنال الولايات المتحدة إتحاداً أوروبياَ ألعوبة في يدها، بسبب هذه الحرب الورطة التي أسقطته في نفق التبعية العمياء لها، وفي نفس الوقت تتراجع حدة المواجهة وتصير بينها وبعض الدول الأوروبية وليس معظمها.
شرق أوسط على حافة الإستقرار
على الرغم من الصراع الدائر بالوكالة في أوكرانيا فما زالت قنوات الإتصال الأميركية الروسية مفتوحة حول ملف الشرق الأوسط ويبدو أن التفاهمات التي تمت ابان عهد ترامب ما زالت محترمة، حيث سلمت الولايات المتحدة بدور روسيا الوازن في سوريا على ما يبدو مقابل تسليم روسيا بدور وازن للولايات المتحدة في لبنان. (برأيي ان الاتفاق ما زال وليد تفاهم عميق بين القطبين وقيد التطوير ولم يكتمل لوجود قضايا شائكة فيه من مصير الأكراد في سوريا إلى دور حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى تفرغ الأطراف لتدويل أوروبا المتوازن)
لذلك وضعت الولايات المتحدة الأمريكية فيتو على تردد الصهاينة في توقيع الإتفاق مع لبنان، بعدما روضت الحالة اللبنانية بالكامل ليستقبل أركان الدولة هوكشتاين كأنه مركب النجاة لنظام 1861.
الإتفاق مع لبنان تم وليس بالضرورة أن يضمن إستقرار الأوضاع في المنطقة بعد نهاية الشتاء، ولكنه سيساهم في تدفئة أوروبا قليلاً (برضى روسي ومسعى أميركي)- أما دول الشرق الأوسط فما زالت كلاً منها منفردة سواء تركيا وايران والدول العربية كل على حدة تسعى للحصول على ثمن مقابل تهدئة او سلام مع الكيان، ما يفسر المراوحة في الساحة اللبنانية، لا سلم ولا حرب، لا موت ولا ازدهار وان كان موت الشعب البطيء هو النتيجة.
ورب ضارة نافعة، فقد دفعت الحرب الروسية الأميركية في أوكرانيا إلى جعل إستقرار الشرق الأوسط ضرورة لدعم الجبهة الداخلية في أوروبا، وصار لزاماً على الولايات المتحدة أن تؤمن كميات من الغاز لأوروبا بدلاً من التي خسرته من روسيا، وصار أمن الشرق الأوسط وإستقراره من أمن وإستقرار أطراف الصراع في أوروبا، وإن كان هذا الاستقرار ما زال هشاً و وليد أيام عجاف فهل يكتب له الإستمرار؟! إنها مرحلة حساسة تحمل في طياتها جميع الإحتمالات.
دول أوروبا التي تريد أن تشتري الغاز عليها أن تشتري الروبل بسعر السوق بعملاتها لتتم شراء الغاز الروسي) وهذا أدى إلى ارتفاع سعر الروبل بشكلٍ قياسي مقابل الدولار مقابل الدولار (وفي مواجهته رفع الأميركي سعر عملته بعدة خطوات والضحية هي اليورو الأوروبي.
ومع دخول فصل الشتاء ستتولد أزمة طاقة كبيرة بدأت تجلياتها تظهر بتقنين في المدن، تحديد لمناطق التجمعات المضاءة، تحديد لساعات التدفئة والإستحمام وقطع الأشجار للتدفئة والقادم أعظم، بعد قرار اوبك+ (اي دول اوبك وروسيا) بتخفيض الإنتاج بمليوني برميل لأن حاجات الدول اوروبية للمشتقات النفطية مرتفعة أساساً للتعويض عن النقص في الإمدادات الروسية وهذا ما بدأ يظهر بطوابير السيارات امام محطات الوقود في اوروبا وارتفاع سعر البنزين والمازوت في هذه الدول والتي تمتد لكيلومترات!!!
في المقابل لقد حقق الأميركي جملة مكاسب، أولها أنه أجبر خصمه على القيام بكشف أول خطواته وقطع أي إحتمال لأي موقف ألماني أو فرنسي بالخروج عن ألف باء الموقف الأميركي من الصراع في أوكرانيا، ولا بد أن الصناعات العسكرية الأميركية اليوم في أفضل أحوالها وأموال دافعي الضرائب الأميركي تصب في حسابات صانعي الأسلحة ومجندي المرتزقة، بالإضافة إلى تراجع قيمة اليورو لأول مرة في تاريخه مقابل الدولار كما أن أصوات وشريحة معارضي التورط في الحرب مع روسيا في أوكرانيا مرتفعة وتتسع ومنهم في أوروبا ومنهم من يدعو إلى الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي من أجل عودة الغاز الروسي إلى بلادهم.
لذلك فقد لا يضطر بوتين إلى تحريك جيشه لإسترجاع العديد من دول أوروبا كما فعل الإتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية لطرد النازيين من نصف أوروبا حينما إعتبر صراعاً وجودياً كما تعتبره القيادة الروسية اليوم، بل ربما يكتفي بإنتظار الجنرال الأبيض مع منخفضاته الجوية وعواصفه الجليدية التي لن تساوي بين دولة وجيش دافئ وقارة وشعوب باردة، ومن الطبيعي أن تحاول الولايات المتحدة اليوم أن تبيع أوروبا منتجاً أو أملاً مقابل ثروات أو المزيد من النفوذ كما فعلت إقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة إعمار ما دمره الصراع مع النازية وقطفت ثماره في حينه عبر إعادة إعمار أوروبا أو على الأقل إعادة تدفئتها.
خريطة حساسة تحكمها صراعات عرقية
تعتبر أوروبا ذات خريطة ديموغرافية معقدة وحالة من الاستقرار الهش المحكوم بهواجسٌ تاريخية تجعل الكثير من الدول – في حال إهتز الإتحاد الأوروبي بسبب المغامرات الأميركية – تعيد حساباتها وتعود لتلتحق بروسيا كما كانت في الماضي، ما عدا أوروبا الغربية ذات التاريخ السيء مع روسيا.
لذلك تسعى الولايات المتحدة أن تؤمن كميات من الغاز بالدرجة الأولى لدول أوروبا الغربية، لأنها الدول المضمون إلتصاقها بالتحالف مع الولايات المتحدة، وهذا ما سيسرع في حسم المشهد الأوروبي بالإنقسام بين دول غير معادية لروسيا من جهة وأوروبا الأطلسية من جهة أخرى.
وهكذا تنال الولايات المتحدة إتحاداً أوروبياَ ألعوبة في يدها، بسبب هذه الحرب الورطة التي أسقطته في نفق التبعية العمياء لها، وفي نفس الوقت تتراجع حدة المواجهة وتصير بينها وبعض الدول الأوروبية وليس معظمها.
شرق أوسط على حافة الإستقرار
على الرغم من الصراع الدائر بالوكالة في أوكرانيا فما زالت قنوات الإتصال الأميركية الروسية مفتوحة حول ملف الشرق الأوسط ويبدو أن التفاهمات التي تمت ابان عهد ترامب ما زالت محترمة، حيث سلمت الولايات المتحدة بدور روسيا الوازن في سوريا على ما يبدو مقابل تسليم روسيا بدور وازن للولايات المتحدة في لبنان. (برأيي ان الاتفاق ما زال وليد تفاهم عميق بين القطبين وقيد التطوير ولم يكتمل لوجود قضايا شائكة فيه من مصير الأكراد في سوريا إلى دور حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى تفرغ الأطراف لتدويل أوروبا المتوازن)
لذلك وضعت الولايات المتحدة الأمريكية فيتو على تردد الصهاينة في توقيع الإتفاق مع لبنان، بعدما روضت الحالة اللبنانية بالكامل ليستقبل أركان الدولة هوكشتاين كأنه مركب النجاة لنظام 1861.
الإتفاق مع لبنان تم وليس بالضرورة أن يضمن إستقرار الأوضاع في المنطقة بعد نهاية الشتاء، ولكنه سيساهم في تدفئة أوروبا قليلاً (برضى روسي ومسعى أميركي)- أما دول الشرق الأوسط فما زالت كلاً منها منفردة سواء تركيا وايران والدول العربية كل على حدة تسعى للحصول على ثمن مقابل تهدئة او سلام مع الكيان، ما يفسر المراوحة في الساحة اللبنانية، لا سلم ولا حرب، لا موت ولا ازدهار وان كان موت الشعب البطيء هو النتيجة.
ورب ضارة نافعة، فقد دفعت الحرب الروسية الأميركية في أوكرانيا إلى جعل إستقرار الشرق الأوسط ضرورة لدعم الجبهة الداخلية في أوروبا، وصار لزاماً على الولايات المتحدة أن تؤمن كميات من الغاز لأوروبا بدلاً من التي خسرته من روسيا، وصار أمن الشرق الأوسط وإستقراره من أمن وإستقرار أطراف الصراع في أوروبا، وإن كان هذا الاستقرار ما زال هشاً و وليد أيام عجاف فهل يكتب له الإستمرار؟! إنها مرحلة حساسة تحمل في طياتها جميع الإحتمالات.