بينما بلغ عدد ضحايا الحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة أكثر من 14000 شهيد، ثلثهم من الأطفال، بحيث تحوّل القطاع بحسب قول الأمين العام للأمم المتحدة إلى “مقبرة للأطفال”، وبينما دمّرت القوات الغازية أحياء سكنية بكاملها، بحيث بلغت نسبة الوحدات السكنية المدمرة أكثر من 45% من عدد هذه الوحدات في القطاع، وواصلت قصف المدارس والجامعات والمستشفيات والكنائس والمساجد، ونفذّت عملية تطهير عرقي لمناطق بأكملها في شمال القطاع؛ يدور سجال بين الخبراء والمحللين حول كيفية تصنيف هذه الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل”، وتتباين الآراء، بصورة خاصة، حول ما إذا كان في الإمكان تصنيف هذه الجرائم ضمن جرائم الإبادة الجماعية.
جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها
تتكوّن كلمةgenocide ، التي تعني الإبادة الجماعية، من البادئة اليونانية genos، والتي تعني “العرق أو الجنس” واللاحقة اللاتينية cide، والتي تشير إلى مفهوم “القتل”. وقد استخدم هذا المصطلح، لأول مرة في سنة 1944، المحامي البولندي رافائيل ليمكين، الذي حصل لاحقاً على الجنسية الأميركية، واعتبره في سنة 1945 “جريمة دولية”، لدى ترؤسه الوفد الأميركي إلى محاكمة نورمبرغ للمجرمين النازيين الذين كانوا ضالعين في التخطيط، أو التنفيذ، أو المشاركة بوجه من الوجوه في “المحرقة” وغيرها من جرائم الحرب.
وفي 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، التي عرّفتها بأنها تعني “أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: أ) قتل أعضاء الجماعة؛ ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء الجماعة؛ ج) إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ هـ) النقل القسري للأطفال من الجماعة إلى جماعة أخرى”. وفي 17 تموز/يوليو 1998، أقرّت الدول المتعاقدة “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، الذي دخل حيز النفاذ في 1 تموز/يوليو 2002، واتفقت على إنشاء “محكمة جنائية دولية”، يكون مقرها في مدينة لاهاي الهولندية، وتنظر في الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جرائم الحرب وجريمة العدوان، على أن يتم تقديم الأشخاص المتهمين بارتكاب هذه الجرائم “إلى المحاكم المختصة في الدولة التي ارتكب الفعل على أراضيها، أو إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تكون لها الولاية القضائية فيما يتعلق بالأطراف المتعاقدة التي اعترفت بولايتها”. وبينما امتنعت كلٌ من الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا والهند وإسرائيل عن الانضمام إلى نظام روما الأساسي، انضمت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية في سنة 2015.
وقد اعترفت هيئة الأمم المتحدة، إلى اليوم، بثلاث مجازر جماعية بصفتها جرائم إبادة جماعية، وهي: إبادة اليهود على يد النازيين خلال فترة الحرب العالمية الثانية، والإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا في سنة 1994، ومذبحة المسلمين في سربرينيتسا في البوسنة في سنة 1994-1995. كما تمّ الاعتراف، من جانب الأمم المتحدة، بالمذبحة التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد الأرمن بين سنتَي 1915 و1916 بصورة غير مباشرة على أنها إبادة جماعية. وخلصت بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة إلى أن الحملة العسكرية التي تشنها ميانمار ضد الروهينجا تنطوي على “أعمال إبادة جماعية”.
الإبادة الجماعية واختلافها عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية
يرى الباحث كونستانز فيتشر في مقال نشره في 3 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بعنوان: “ما هو المعنى الدقيق لمصطلح الإبادة الجماعية”، أن هذا المصطلح يستخدم كثيراً “بطريقة غامضة للغاية للإشارة إلى الجرائم الكبرى والأشد خطورة”، وأن مغزاه الرمزي هائل لأنه “يبدو أقسى بكثير من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية”، مؤكداً أن مراقبة الإبادة الجماعية “ليست مجرد مسألة أرقام، بل إن المعيار الأكثر أهمية هو نية الإبادة الجسدية لجماعة ما”، ثم يتساءل: “ولكن كيف يمكن إثبات النية؟”. وللإجابة عن هذا السؤال، يعود إلى ويليام شاباس، أستاذ القانون الدولي الكندي، الذي يقدّر أن “الجناة ربما لن يقدموا اعترافات مباشرة في المحكمة”، الأمر الذي يجعل العدالة “ملزمة بالاعتماد على النصوص والأوامر والأفعال أو حتى الممارسات التي يمكن استخدامها لإثبات النية”، وهو ما يجعل من الإبادة الجماعية “أصعب جريمة دولية يمكن إثباتها”، ويعني أن الملاحقات الجنائية المتعلقة بالإبادة الجماعية “غالباً ما تستغرق وقتاً طويلاً”. وكان جان بول أكايسو من رواندا أول شخص يُدان بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بعد مرور ما يقرب من 50 عاماً على إقرار الاتفاقية.
وعرّف “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” جرائم الحرب بأنها، من جهة، الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949، بما يشمل القتل العمد، والتعذيب، وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، وإرغام الأسرى على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية أو حرمانهم من محاكمات عادلة ونظامية، والإبعاد أو النقل غير المشروعين للسكان وأخذ رهائن؛ ومن جهة ثانية، بأنها الأفعال التي تنتهك القوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، وتشمل، من ضمن أفعال أخرى، توجيه هجمات ضد السكان المدنيين وضد المواقع المدنية؛ توجيه هجمات ضد العاملين في مجال تقديم المساعدات الإنسانية وعمليات حفظ السلام؛ مهاجمة وقصف المدن أو القرى أو المساكن والمباني العزلاء؛ توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية والتعليمية والفنية والمستشفيات؛ قيام دولة الاحتلال بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها؛ تعمد تجويع المدنيين بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم؛ أخذ رهائن…إلخ.
بينما عرّف “نظام روما الأساسي” الجرائم ضد الإنسانية بأنها تشمل، بصورة خاصة، القتل العمد، والإبادة، والاسترقاق، وإبعاد السكان أو النقل القسري لهم، والسجن، والتعذيب، والاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، والحمل القسري أو التعقيم القسري، واضطهاد أية جماعة محددة لأسباب سياسية أو عرقية أو سياسية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، والإخفاء القسري للسكان وجريمة الفصل العنصري.
ما طبيعة الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” في قطاع غزة؟
يتفق المحللون، عموماً، على أن “إسرائيل” ترتكب في قطاع غزة جرائم يمكن تصنيفها ضمن “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية”، لكنهم يختلفون حول ما إذا كانت تمارس جريمة “الإبادة الجماعية”. فبحسب تصريح فولكر تورك، مفوض هيئة الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فإن “العقاب الجماعي الذي تمارسه “إسرائيل” على المدنيين الفلسطينيين يعد جريمة حرب، وكذلك الإخلاء القسري غير القانوني للمدنيين”، وكانت المتحدثة باسم المفوضية الأممية لحقوق الإنسان إليزابيت تروسيل، قد أقرّت، في 1 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بأن “إسرائيل” ارتكبت “جرائم ضد الإنسانية”، كان أحدثها في مخيم جباليا شمالي القطاع، مشيرة إلى أن “إسرائيل” تستخدم في قصفها للمباني والمنازل متفجرات ذات تأثير هائل، وأن المدنيين موجودون “تحت ضغوط هائلة ويعانون أوضاعاً صعبة للغاية”.
من ضمن المحللين الذين يرفضون تصنيف ما ترتكبه “إسرائيل” من جرائم في قطاع غزة ضمن أعمال الإبادة الجماعية، الصحافي المعروف سيلفان سيبل، أحد أعضاء هيئة تحرير المجلة الإلكترونية الفرنسية “أوريان 21″، الذي يعتبر أن ما نشهده في قطاع غزة هو “مذبحة وجريمة خطيرة”، لكنها لا تنطوي على “نية في الإبادة”. ويتفق جاك سيملان، مدير الأبحاث في معهد العلوم السياسية وفي المركز الوطني للأبحاث العلمية، مع هذا الرأي، إذ هو يرى أنه “من الناحية القانونية، لا نعرف في التاريخ عمليات قصف تم تصنيفها على أنها إبادة جماعية”، ذلك إن “قصف مدينة دريسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية اعتبر جريمة حرب، بينما قصف هيروشيما وناغازاكي اعتبر جريمة ضد الإنسانية”. ويتابع الباحث نفسه أنه “”في المصطلحات التي تستخدمها إسرائيل، نرى أن النية هي القضاء على حماس وليس القضاء على فلسطين”؛ ومع أن هناك “بعض الالتباس، لأن وزير الحرب في حكومة الكيان تحدث منذ البدء عن حيوانات بشرية، إلا أنه من غير المعروف ما إذا كان يقصد بذلك مسلحي حماس أو جميع الفلسطينيين!”، ليخلص إلى أنه يعتقد “أن العمليات الحالية لـ “إسرائيل” تندرج تحت ما أسميه التدمير بهدف التهجير، وهو ما يرقى إلى شكل من أشكال التطهير العرقي، وهو منطق قائم في أسس دولة إسرائيل منذ سنة 1948، في زمن النكبة، من خلال نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضي الدولة الجديدة”.
بيد أنه يُلاحظ تزايد عدد الذين يؤيدون تصنيف ما ترتكبه “إسرائيل” من جرائم في قطاع غزة ضمن أعمال الإبادة الجماعية. إذ قام 300 محامي بتقديم شكوى إلى محكمة الجنايات الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، وذلك في مؤتمر صحافي عُقد في لاهاي في 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بمشاركة 30 محامياً وطبيباً وأكاديمياً يتقدمهم المحامي الفرنسي جيل دوفر، كما انضمت إلى تلك الشكوى 111 منظمة غير حكومية من جميع أنحاء العالم. ويصر الذين يعتبرون أن “إسرائيل” تقوم بأعمال إبادة جماعية على أنه من بين المعايير الخمسة التي تحدد الإبادة الجماعية، هناك ثلاثة من هذه المعايير تستوفي على الأقل التعريف، وهي قتل أعضاء الجماعة؛ الإضرار الجسيم بالسلامة الجسدية أو العقلية لأعضاء الجماعة؛ إخضاع الجماعة عمداً لظروف وجودية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. وكانت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية، إيوني بيلارا، قد قدّرت، في تصريح لقناة الجزيرة في 16 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أن “إسرائيل” تمارس في قطاع غزة “جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة”، ودعت المجتمع الدولي إلى معاقبة إسرائيل، كما أدانت زعماء العالم التي ينتهجون سياسة المعايير المزدوجة، إذ بينما يدينون انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا يلتزمون الصمت إزاء ضحايا عمليات القصف الإسرائيلية.
أما ربيعة أغبارية، محامي حقوق الإنسان الفلسطيني الذي يكمل دراسة الدكتوراه في كلية الحقوق في جامعة هارفارد، والذي رفضت مجلة جامعته أن تنشر مقالاً له بعنوان: “النكبة المستمرة: نحو إطار قانوني لفلسطين”، فقد انتقد، في مقاله هذا الذي نشرته مجلة “The Nation”، الجمود الذي تتصف به الأوساط الأكاديمية القانونية، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، التي “من الأسهل عليها كثيراً التفكير في الإبادة الجماعية في الماضي بدلاً من مواجهتها في الوقت الحاضر”، والتي ترى أن “استحضار الإبادة الجماعية، ولا سيما في غزة، ينطوي على عواقب وخيمة”، وتساءل: “لكن هل يتعيّن علينا أن ننتظر حتى يتم تنفيذ الإبادة الجماعية حتى نطلق عليها اسماً؟ ألا يساهم هذا المنطق في سياسة الإنكار”، ملاحظاً أنه عندما يتعلق الأمر بغزة، فإن هناك “شعوراً بالنفاق الأخلاقي الذي يكمن وراء المقاربات المعرفية الغربية، والذي يخنق القدرة على تسمية العنف الممارس على الفلسطينيين، علماً بأن إدانة الظلم هو أمر بالغ الأهمية للمطالبة بالعدالة”. وبحسب المحامي نفسه، فإن العديد من التصريحات التي أدلى بها كبار السياسيين الإسرائيليين تؤكد نواياهم الرامية إلى تنفيذ الإبادة الجماعية، والأهم من ذلك أن الإبادة الجماعية “هي الواقع المادي للفلسطينيين في غزة”، مشيراً، في هذا السياق، إلى أن مجموعة تضم أكثر من 800 أكاديمي، بينهم متخصصون بارزون في القانون الدولي ودراسات الإبادة الجماعية، حذروا من “خطر جدي للإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزة”، كما حذر سبعة من المقررين الخاصين للأمم المتحدة من “خطر الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني”، وأكدوا مجدداً أنهم “ما زالوا مقتنعين بأن الشعب الفلسطيني معرض لخطر جدي للإبادة الجماعية”، في حين وصف ستة وثلاثون خبيراً من خبراء الأمم المتحدة الوضع في غزة بأنه “إبادة جماعية في طور التكوين”، ليخلص إلى أن فلسطين هي المكان الذي يمكن أن ترتكب فيه الإبادة الجماعية باعتبارها معركة “للعالم المتحضر” ضد “أعداء الحضارة نفسها”، وبصفتها صراعاً بين “أبناء النور” و”أبناء الظلمة”.
خاتمة
“إبادة جماعية”، “جرائم حرب”، “جرائم ضد الإنسانية”، “إبادة مجتمعية” (Sociocide )، “إبادة سياسية” Politicide))، ترانسفير؛ لعل حكومات “إسرائيل” المتعاقبة مارست، على مدى تاريخ دولتها، جميع هذه الجرائم إزاء الشعب الفلسطيني، لكنها ظلت من دون عقاب بفضل الدعم المتواصل الذي تلقته وتتلقاه من الإدارات الأميركية وحكومات الدول الغربية التي تنظر إليها باعتبارها، كما أوصى بذلك تيوردور هرتزل منذ سنة 1896 “موقعاً متقدماً” للغرب في آسيا، و “حاجزاً للحضارة ضد البريرية”!! ويبدو أن “إسرائيل” ستظل تمارس هذه الجرائم طالما رضي المجتمع الدولي بأن تبقى “كيان فوق القانون الدولي”!
ماهر الشريف – نشر سابقًا (بتصرّف)