في حرب السادس من أكتوبر 1973 وبعد أن تقدم الجيشان، المصري والسوري، على جبهتي السويس والجولان وأنجزا نجاحات باهرة، المصري بكسر خط بارليف والسوري بالوصول إلى طبريا بالإضافة لتدمير مئات الدبابات وإسقاط مئات الطائرات الصهيونية، كشف السادات أن نواياه مختلفة تماما من هذه الحرب عن نوايا الرئيس السوري حافظ الأسد، وأوقف القتال على الجبهة المصرية وسمح للقوات الصهيونية بصب كل قوتها على الجبهة السورية.
اتضح فيما بعد أنه كان قد اتفق مع كيسنجر على ذلك وصولا إلى كامب ديفيد، الأمر الذي لخصه هيكل بالقول إنه إذا كان السلاح قد خذل السياسة في حزيران 1976، فإن السياسة خذلت السلاح في حرب اكتوبر 1973.
هذه الأيام وبعد إنجاز باهر غير مسبوق حققه القساميون والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومرغوا أنف العسكرية والمؤسسة الأمنية الصهيونية بالتراب وأهانوها من حيث لا تحتسب، فأطلقت سعارا مجنونا وحشيا ضد المدنيين، ثمة مخاوف من أن يقوم بعض السياسيين بخذلان السلاح بالتواطؤ مع عواصم إقليمية ودولية معروفة، وتحضيرا لإطلاق موجة ثانية من ربيع الفوضى في كل مكان، وليس بلا معنى كذلك أن عواصم وقوى المقاومة والممانعة ستكون هدفا لهذا السيناريو كما حدث بعد حرب 1973.
نعرف أيضا أنه وقبل والطوفان الكبير المجيد للأقصى، كانت مطابخ الاستخبارات الأمريكية والأوروبية والطورانية الجديدة، تعد لإطلاق أشكال جديدة من الثورات الملونة المتحالفة مع الجماعات التكفيرية، لكن أركانها الأساسية كانت قد تلقت هزائم وخسائر كبيرة في كل مكان وصارت بحاجة إلى جرعات وأقنعة ومشاجب جديدة لجر الشارع إليها ومعها، لا سيما من الخزان الشعبي الذي لا ينضب وهو خزان وذاكرة ووجع القضية المركزية للأمة، قضية فلسطين.
لقد أدركت هذه القوى أن أحد أسباب هزيمتها في ربيع الفوضى هو تغييب هذه القضية تحديدا واستبدالها بمزيج من خطابات الكراهية الطائفية والليبرالية المزعومة، فلا بأس إذن من استثمار اللون الإسلامي للمقاومة التي ألحقت بالعدو الصهيوني هزيمة منكرة في السابع من أكتوبر، وإزاحتها عن قانون التراكم ضد هذا العدو نحو أجندتها المشبوهة.
فمن جهة، تمتص الالتفاف الشعبي الكبير الذي أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة وللصراع مع العدو الصهيوني وما يمثله من امتداد للامبريالية الأمريكية والأوروبية، ومن جهة ثانية تسعى إلى توظيفه في طاحونة أخرى مغايرة تقطع الطريق على الاستثمار الوطني لذلك من قبل محور المقاومة، وتضع هذا المحور من جديد أمام استنزافات جانبية مشبوهة.
ويرتبط بالسيناريو المذكور فرضيات هشة متعددة حول مستقبل حماس في القطاع تسلم بصعوبة إنهاء وجودها وتنطلق من خيارات مثل، حماس السياسية بلا سلاح، أو حماس سلمية بلا سلطة سياسية، ما دام وجودها الناقص هذا بالنسبة لهذه القوى يوفر غطاء لربط القطاع مجددا بسلطة التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني في الضفة الغربية المحتلة، ويستعرض السيناريو تجارب من ايرلندا الشمالية وكولومبيا وغيرها.
يشار هنا إلى أن حل الدولتين الذي عاد للتداول في سوق السمسرة السياسية، يقصد به تحديدا وفي هذه المرحلة، إعادة ربط القطاع بسلطة التنسيق الأمني في الضفة وإعادة إنتاج أوهام التسويف والتسوية السياسية.
مقابل ذلك، لا يبدو أن هذا السيناريو قابل للحياة لأكثر من سبب:
- بالرغم من السعار الإعلامي في بعض المنابر والفضائيات العربية والدولية الذي لا يقل عن السعار الوحشي الصهيوني ضد المدنيين، والذي يتحدث عن مرحلة ما بعد حماس، إلا أن الوقائع والمعطيات الميدانية تؤكد أن حماس باقية في القطاع وأن بنيتها العسكرية مؤهلة وقادرة على القتال فترة أطول مما يتوهمون.
- بالرغم من ربط جانب من الجسم الاجتماعي لحماس مثل عائلات الشهداء والبنى المدمرة بالمصادر المالية التي تتحكم فيها أوساط من بعض القيادات الحمساوية في محمية الغاز المسال، إلا أن الجسم والكادر النوعي العسكري والسياسي تكرّس كجزء حيوي من محور المقاومة وخطابها.
- إن إنجاز القساميين الكبير والتاريخي ضد العدو الصهيوني محصن بطبيعته ضد أي توظيف إخواني كما حصل في ربيع الفوضى الذي كان بديلا مبرمجا عن القضية المركزية للأمة، قضية فلسطين، وبالتالي ضد أي شكل من أشكال السمسرة التي سقطت فيها الأطراف المعروفة والتي كانت تحاول فرض وصاية مذهبية على الرأي العام الإسلامي خلال ذلك الربيع، بل أن الرئيس التركي، أردوغان، على سبيل المثال وهو يؤكد أن دعوته لقطع العلاقات مع نتنياهو لا تعني قطع العلاقات مع إسرائيل، يوسع المسافة بين التيار المشتبك مع العدو وبين تيار الأوهام السياسية باسم حل الدولتين.