من يطلق صافرة الانطلاق

بعد انقضاء شهر ونصف على اندلاع حرب تشرين الثانية لا تبدو الأمور ذاهبة الى نهاياتها وإنّما الى مزيد من القتال والامتداد إلى ساحات جديدة، فالمقاومة لا زالت تتوقّد روحّا وقتالّا ولا تبدي أي مظهر من مظاهر الوهن أو الملل، بالمقابل لا يبدي جيش الاحتلال وحكومته رغبة في إنهاء القتال من دون تحقيق نصر أو شبه نصر برغم خسائره الفادحة وعجزه عن مغادرة آلياته والخطو على أرض غزة، وكلّ ما استطاعه الإعلام الحربي (الإسرائيلي) هو صنع صورة لمستشفى الشفاء على مدى أسبوعين من الضخ الإعلامي تصوّر المستشفى وكأنّه قلعة حصينة مدجّجة بالسلاح ومحاطة بالأسوار العالية و تدار منها عمليات المقاومة ويحتجز بها الأسرى، وأنّه في النهاية استطاع هدم جدرانها واقتحامها، فيما ترتفع حرارة الضفة الغربية والجليل.
لا تزال الحرب طويلة ويرى وزير الدفاع الإسرائيلي يواف جالنت أنّها قد تمتدّ لسنة، أمّا رئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك فقد وضع احتمال أن تمتدّ لما هو أكثر من سنة، ربما لسنوات، وأن تتحوّل إلى حرب استنزاف طويله تستطيع المقاومة خلالها قضم قدرة المجتمع (الإسرائيلي) على الصمود، الأمر الذي يعني تفكّك المجتمع المعادي وخسائر اقتصادية فادحة وضعف قدرة الكيان على الحفاظ على برامجه الاجتماعية من صناديق مرضى وصناديق بطالة وما إلى ذلك، وقد أدّت الحرب برأي باراك هذا إلى انفصام العقد الاجتماعي بين الكيان ومواطنيه بعد أن عجز عن حمايتهم أو عن تحرير من وقع منهم بالأسر في واقعة لم يشهد الكيان مثيلًا لها منذ تأسيسه.
يرى بعض من المحللين والكتاب المتابعين للشأن العبري وللحرب أنّ نتنياهو يريد من هذه الحرب أن تعزّز موقعه وأن تضمن مستقبله السياسي وعدم خروجه من دائرة الضوء، وعلى أنّه لن ينتهي مع نهاية هذه الحرب في السجن، و بأنّ تحول قدرته على إدارة المعركة دون محاكمته بتهم الفساد المرفوعة ضده والمنظورة أمام القضاء (الإسرائيلي)، قد يكون ذلك صحيحّا، إلا أنّه تفصيل ومسألة جزئية، ولكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد وإنّما تتجاوز نتنياهو وأغراضه الصغيرة، فالانتصار في الحرب واستعادة هيبة الردع التي كان يملكها الجيش (الإسرائيلي) والأجهزة الأمنية هي محط اهتمام مؤسسة الكيان في إسرائيل (الدولة العميقة) لا نتنياهو فحسب، والمؤسسة (الكيان) تحتاج الى انتصار، وكانت قد وضعت أهدافًا أعلنتها في بداية الحرب تبيّن لها لاحقًا أنّ من الصعب تحقيقها إن لم يكن من المستحيل، فهي تارة تريد أن تسحق المقاومة لمرة واحدة وللأبد، ولا تكتفي بالحديث مثلًا عن إضعافها أو تهشيمها، ثم تطرح في تارة أخرى أنّها تريد احتلال غزة بالكامل ومن ثم الضغط على أصدقائها والمتصالحين معها في العالم وفي الإقليم من أجل إبقاء سيطرتها الأمنية والعسكرية، فيما يقوم تحالف من هؤلاء باستلام الإدارة والحكم، لكن هؤلاء الأصدقاء والمتصالحين يرون أنّ إسرائيل هي الأولى بذلك ولا أحد منهم يقبل طوعًا الدخول في هذه المتاهة او أن يستثمر في مشروع صعب أو مستحيل التحقيق.
لمّا كان كل ذلك غير ممكن، وهو إن أمكن فلن يكون انتصارًا (لإسرائيل) او استعادة لقدرتها الردعية، لذلك لن يكون أمامها من مجال إلّا البحث عن أمكنة أخرى تستطيع أن تحقق بها انتصارًا تستعيض به عن انتصار في غزة.
لكن لمّا كان الجيش (الإسرائيلي) عاجزًا عن الانتصار على بقعة صغيرة من الأرض مساحتها 360 كيلو متر مربّع وعلى مقاومة طوّرت إمكاناتها وهي محاصرة لأكثر من عقد ونصف من الزمن، فكيف له ان ينتصر في معركة أكبر وفي مواجهة أعداء أكثر عددًا وعتادًا.

ثلاثة أماكن مرشّحة لهذا الفعل: الضفة الغربيّة، لبنان أو إيران.
في الضفة الغربيّة تقوم إسرائيل بمشاغلة أماكن النشاط الوطني في شمال الضفة، فهي ليلة في جنين وأخرى في نابلس وثالثة في طولكرم ورابعة في طوباس، و قد تجاوز عدد الشهداء في الضفة الغربية خلال الحرب 200 شهيد، كما قام وزير الأمن الداخلي بن غفير بتوزيع عشرات ألاف البنادق على المستوطنين في الضفة الغربية، فيما وزير المالية سموترتش يدعمهم بالمال ويعوّض خسائرهم نتيجة الحرب بسخاء و يدفع باتجاه رفع وتيرة الاستيطان ومصادرة الأرض وتوغل المستوطنين على الفلسطينيين، وتمهّد (إسرائيل) الطريق لأحداث تمسّ الوضع الاجتماعي والأمن في الضفة الغربية بإضعاف السلطة الفلسطينية والفصل بين دورها الأمني ودورها الإداري، وحسب ما اقترح الجنرال السابق والاستراتيجي المعروف ايغورا ايلاند كسر ظهر النظام المدني ودفعه نحو الانهيار التام، طبعًا هذا يشمل الضفة وغزة، مما سيدفع بالفلسطينيين في غزة للهجرة جنوبا باتجاه سيناء وفي الضفة للهجرة شرقًا نحو الأردن الذي يبدي قلقًا بالغًا مما يجري، ومن تفاقم الوضع الاقتصادي والأمني وضعف السلطة عن توفير الرواتب والأمن الشخصي، فإنّ معدلات الهجرة الى الأردن ستمثل انتصارًا أو شيئًا من الانتصار للحكومة (الإسرائيلية).
على جبهة الصراع مع المقاومة اللبنانية المشتبكة مع الاحتلال بتصاعد يومًا بعد يوم، يراهن الإسرائيلي على قدرته التدميرية المفرطة التي يمكن أن يستعملها ضد لبنان والعاصمة بيروت، وهو ما أعلنه أكثر من مرة، والتي ستحرك جزءًا من لبنان للعمل ضد المقاومة تحت شعار الحرص على سلامه البلد، وتضطر المقاومة للقتال على جبهتين، جبهة الاحتلال جنوبًا وجبهة أنصار الاحتلال في الداخل اللبناني، أو أن تلجأ (إسرائيل) الى توجيه ضربة مفاجئة لإيران ومشاريعها النووية، الأمر الذي سينال من هيبتها ويضعفها ويلبي رغبات الغرب المستفيد من هكذا ضربة، وتصبح الحرب عندئذ بين محور المقاومة من جانب، وبين كل قوى الغرب التي ستنخرط ميدانيًا بعساكرها وآلياتها وتكنولوجيتها وأجهزة مخابراتها في الحرب، و يعطي (إسرائيل) الفرصة التالية: إن تحقق نصر فهو لها أما إن تحققت الهزيمة فهي المشروع الغربي.
اتساع رقعه الحرب أمر واقع لا محالة وبد لا بد منه، ولكن احتمال أن تبدأ إسرائيل الهجوم فهو ممكن لأنّ في ذلك طوق نجاة لها عبر انخراط العالم الغربي الى جانبها لا بالسياسة والدعم العسكري والاقتصادي فقط، فمن سيطلق صافرة البدء؟