أبطال استقلال لبنان قوميون اجتماعيون

    في الثامن من تشرين الثاني 1943، اجتمع النواب اللبنانيون وقاموا بتعديل الدستور لجهة إلغاء كل المواد المتعلقة بعصبة الأمم والانتداب الفرنسي، وجعل اللغة العربية، اللغة الرسمية الوحيدة في لبنان، وهذا ما أغضب الفرنسيين، فقاموا باعتقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء عادل عسيران، كميل شمعون وسليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي، وسجنوهم في قلعة راشيا، وأصدر المندوب الفرنسي جان هيللو قراراً بإبطال مفعول التعديل، وتعليق الدستور، وحل المجلس النيابي، وتعيين إميل إدة رئيساً للجمهورية والحكومة، فقام النواب والوزيران الباقيان خارج الاعتقال حبيب أبي شهلا ومجيد أرسلان، بزيارة منزل رئيس الجمهورية، ثم عقدوا جلسة نيابية في مجلس النواب، وقرروا تغيير شكل العلم اللبناني، وأرسلوا مذكرات احتجاج إلى بعض الدول، ثم انتقلوا إلى منزل صائب سلام ومنحوا الثقة لحبيب أبي شهلا ومجيد ارسلان، اللذان شكلا حكومة ثنائية، انتقلت بعدها إلى بشامون خوفاً من ملاحقة الفرنسيين، وأصدرت قرارات تنكر شرعية إميل إدة، وتأمر الموظفين بعدم إطاعته، كما أصدرت أمراً إلى مدير مصرف سورية ولبنان والى أمين صندوق الخزينة بعدم صرف أي مبلغ إلا بأمر منها، كما أنشأت الحرس الوطني للدفاع عن مقر الحكومة.

    تحولت بشامون والقرى المحيطة بها إلى منطقة عسكرية، يحميها متطوعو الحرس الوطني، مدعومون من الأهالي، صباح يوم الإثنين 15 تشرين الثاني، هاجم الفرنسيون معززون بالمصفحات، من جهة سوق الغرب على دفعتين، فتصدى لهم شباب الحرس الوطني، وفي صباح اليوم التالي كرروا هجومهم، وتقدموا ناحية مقر الحكومة في بشامون، وحصلت مواجهة شديدة، برز القومي الاجتماعي الرفيق سعيد فخر الدين، وبعد أن قاتل وأطلق كل الرصاصات الموجودة معه، تقدم بكل شجاعة، باتجاه مصفحة كانت تتقدم بسرعة، ليرميها بقنبلة يدوية كان يحملها، إلا أنّ أحد الضباط عاجله برصاصات غادرة من رشاشه فاستشهد على الفور، وكان البطل الوحيد الذي استشهد وهو يدافع عن حكومة الاستقلال، هذا البطل الذي لم يأخذ حقه من التكريم، على المستويين الرسمي والشعبي.

    اتخذت الحكومة من بيت القومي الاجتماعي الشيخ حسين الحلبي في بشامون مقراً لها، وهو بيت جبلي يشرف على مدينة بيروت، وقد كان بكامله تحت تصرّف أعضاء الحكومة، وضمّ الاجتماعات الهامة التي رسمت تاريخ لبنان في مرحلة الاستقلال، وكانت الوفود الشعبية من جميع المناطق اللبنانية تزور البيت، وكان المتطوعون يتولون الحراسة، وتعمل النسوة في بشامون والقرى المحيطة على إعداد الطعام وإرساله الى مقر الحكومة الموقتة

    في 28 نيسان 1944، وأثناء الزيارة الأولى للنائب المنتخب عن دائرة زغرتا يوسف كرم إلى مجلس النواب، حاول عدد من عملاء الاحتلال الفرنسي استغلال الوضع للاستيلاء على المجلس وطرد النواب منه، وإنزال العلم اللبناني عنه، واستعادة عهد الانتداب البائد، وبدأوا بالهتاف لفرنسا وليوسف كرم، وحاولوا رفع العلم القديم، فتصدى لهم عدد من رجال الدرك، وانبرى من بينهم القومي الاجتماعي الدركي الرفيق حسن عبد الساتر، وراح يحدو بصوته القوي وهو يتصدى للمهاجمين بكل بطولة وبسالة ويطلق النار عليهم، فقاموا وبمساعدة الفرنسيين المتمركزين في بناية الهاتف المقابلة بإطلاق النار عليه، فأُصيب برصاصة في رأسه، واستشهد في اليوم التالي.

    كان الأمين أنيس فاخوري في سجن قلعة راشيا، وكان معه الأمين جبران جريج، وكانا يتصلان برياض الصلح وعبد الحميد كرامي وكميل شمعون، وينقلان إليهم ما يجري في الخارج، وكان يساعدهم الرفيق زكريا لبابيدي، وتم تكليف الأمين جبران جريج بمسك دفاتر المعتقلين، فأصبح بإمكانه الإنتقال خارج غرفته، والتواصل مع آخرين في المعتقل، والإطّلاع على ما يجري خارج المعتقل في كل المناطق اللبنانية، من مظاهرات وإضرابات ومواجهات مع سلطات الإنتداب.

    مهما تجاهل النظام الطائفي في لبنان هؤلاء الأبطال، وسعى لطمس بطولاتهم، وأظهر بطولات وهمية لأشخاص كانوا بكل معنى الكلمة عملاء للاحتلال الفرنسي، فإن ذاكرة شعبنا لن تنسى من حارب واستشهد من أجل الاستقلال، وستظل أسماء هؤلاء الشهداء محفورة في وجدان أمتنا، وسيظل هذا الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا.