رب ضارة نافعة

شهدت ليلتا الخميس والجمعة ذروة الهجوم (الإسرائيلي)، وربما الأكثر ضراوة على غزّة منذ بداية الحرب، فقد أراد الإسرائيلي استباق خطاب أمين عام حزب الله عصر السبت محاولًا إمّا استدراج المقاومة للمواجهة بما يخدم مصالحه بدفع الولايات المتحدة والغرب للانخراط ميدانيًا بعساكرهم في المعركة لصالحه وإمّا لضرب الروح المعنويّة العالية لدينا بالقول أنّ ما تم إيهامكم به من قبل محور المقاومة والحديث عن وحدة الساحات غير صحيح.
الهدف الثاني لتلك الليالي الدامية، أنّه كان من المفترض وربما من المتفق عليه أن يكون (الإسرائيلي) قد قام بالمهمة، وحقق انتصارًا أة شبه انتصار بتحطيم المقاومة وعزل الغزيين في الجنوب رافعين الرايات البيضاء، وذلك تمهيدّا للقمّة العربيّة والقمّة العربية الإسلامية، حيث لن يجد المؤتمرون شيء قد تبقى في غزة ليدافعوا عنه، و بما يزيل الحرج عنهم وليكون باستطاعتهم القول لا حول ولا قوة إلا بالله وإلقاء بكائيات على الضحايا والتنظير حول خطأ المقاومة ومسؤوليتها عمّا أحاق بغزة من كوارث كان بالإمكان تلافيها لو التزمت غزة بالسلام والأمن ولم تعتدِ على (الإسرائيلي) الطيّب الذي قام بالدفاع المشروع عن نفسه، وبهذا لن يتبقى لغزة في مؤتمر القمّة إلّا بعض الصدقات وأعمال الخير والأحسان بإرسال الطعام والدواء ومشاريع إعادة الإعمار واستضافة بعض الجرحى و البحث عن من يتبنى الأيتام الذين فقدوا أباءهم.
السلوك الإسرائيلي يوحي بأنّ تطمينات كانت قد وصلت إليه في الأيّام السابقة للقمّتين، تؤكّد أنّه لن يكون هناك مواقف جدّية أو معارضة للعدوان (الإسرائيلي)، وإنّما كلام في كلام، وأنّ البيان الختامي لن يتطرّق إلى قطع العلاقات أو إلى فرض عقوبات، وإنّما سيكون ذا طابع انساني لا سياسي، ولا مانع من الحديث المكرّر عن العودة إلى مسار سياسي تفاوضي أو حلّ الدولتين وما إلى ذلك من عبارات مملة مكررة، و قد جاء البيان الختامي للقمّة مصداقًا لما ورد أعلاه.
لكنّ غزّة وأهلها من مدنيّين ومقاومين قد يكونون على غير علم بأنّ قمّة ستعقد في الرياض أو أنّ من علم منهم لم يعلّق عليها أمالًا أو يلقِ إليها بالًا، أمّا غزّة ومن فيها كانوا ينتظرون ما ستقوله المقاومة اللبنانية بلسان أمين عام حزب الله وما سيقوله الملثّم الوسيم مجهول الوجه أبو عبيدة، وقد جاءت كلتا الكلمتين بعد فشل (الإسرائيلي) في تحقيق نصر ولو وهمي، و زادتا في قناعة الغزيين بالمقاومة ووحدة ساحاتها الجاهزة للمشاركة عندما تتطلب الحاجة العسكرية والسياسية التدخل، لا وفقًا للمزاج الذي يميل للاستعجال والانفعال، فالميدان هو الذي يتحدث وعليه الرهان والقرارات الكبيرة و منها قرارات الحرب، لا ترتجل و لا تؤخذ على عجل وانما تأتي مدروسة بشكل دقيق.
في الجانب الآخر من الصورة، عقد مجلس الحرب (الإسرائيلي) مؤتمرًا صحافيًّا ثلاثيًّا تحدّث فيه كل من نتنياهو وجانتس ووزير الدفاع جالانت، بدى نتنياهو متوترًا غير واثق من نفسه فتحدّث عن سحق المقاومة وهدّدها بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأنّ لا مجال لأي حوار معها إلّا بالحديد والنار، وأنّ الهدف المركزي هو سحق حركة حماس مرّة واحدة وللأبد، ولكنّه في غمرة حماسه وغضبه كان يناقض نفسه ويعود ليقول أنّ حماس ستكون منزوعة السلاح ولن تمثّل تهديدًا (لإسرائيل) من غزة، ثمّ يعود للحديث عن احتلال كامل غزة والسيطرة الأمنية عليها مع الجهة التي ستديرها، فيما وزير دفاعه كان أكثر تركيزًا في كلامه على الجبهة الشمالية حيث نثر التهديدات للمقاومة اللبنانية محذرًا إياها من غضبه وغضب جيشه وحكومته.
الغريب في المؤتمر الصحفي أنّ تقديرات الساسة (الإسرائيليين) بدت منفصلة عن الواقع وتتناقض مع ما يجري على الأرض، فشمال القطاع لا زال فيه الكثير من أهله، و لم تستطع كل آلة الإعلام الحربي أو النفسي (الإسرائيلي) الحصول على صورة مقاتل شهيد أو مقاوم رافع يديه باستسلام، وإنّما ما يجري في ساح القتال هو العكس تمامًا.
و في حين كان أحد خيارات الأميركيّين هو إعادة تسليم غزة للسلطة في رام الله بعد افتراض هزيمة المقاومة، و ذلك كما أشيع عن لقاءات أجراها كل من وزير الخارجية بلنكن ورئيس المخابرات المركزية الامريكية وليم بيرنز مع أركان في السلطة الفلسطينية في رام الله، إلّا أنّ نتياهو أعلن أنّه لن يسمح بعودة السلطة الفلسطينيّة إلى غزة لأنّ رئيس السلطة لم يدن هجوم حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأوّل، ولعل نتياهو كان ينتظر من السلطة الفلسطينية أن تبادر بالقتال الى جانب جيشه في قتل أبناء شعبها.
الى هذا الحد وصل الغباء السياسي بذلك السياسي المخضرم الذي احتل موقع رئاسة الوزراء في إسرائيل لفترة تفوق أي زعيم (إسرائيلي) آخر، حقًا يستحق نتياهو الشكر بدفع الفلسطيني للشعور بأنّ المستهدف هو الكل لا المقاومة فحسب، شكرًا نتياهو لوضعك إيانا في قارب واحد، و يأتي دورنا لنحافظ على بقائنا سوية في ذات القارب و خارج أوهام السلام وإمكانية التعايش مع هذا العدو الذي لا يريد المقاوم و المساوم على حد سواء و رب ضارة نافعه.