فخُّ التّرسيم والتّنقيب

لطالما كان ملفّ العدوّ موجوداً في أدراج المسؤولين اللبنانيين، ومن يقول عكس ذلك يظلم الجوارير! كُلُّ ما في الأمر، أنّ هؤلاء أضاعوا مفاتيح الأدراج التي خبأوا فيها ملفّات العدوّ، منذ زمنٍ طويلٍ حقّاً. الجميع يعرف ذلك. بمن فيهم العدو نفسه. وبالدّليل، إنه لا يستحضر في إعلامه ومواقع التواصل لديه إلّا من هو على ثقة أنّهم يجدّون في محاربته.

وفي هشيم أخبار السياسة، ولغوها، حيث تشتعل الساحة اللبنانية بالتحليلات “الاكستراتيجية”، ومنتحلي صفة الخبراء النفطيين والتنقيبيين والعسكريين والجيوسياسيين، وبين تيارات المحتفلين المهلّلين لانتصارات ما نالت منهم ولا نالوا منها من جهة، والمخوّنين المزايدين من وراء الشاشات، المُدّعين مقاومةً لم تنل منهم ولا نالوا منها، والمنظّرين هباءً منثوراً في أزقّة التهليل والتكبير، عددٌ فقيرٌ ممّن قدّموا أرواحهم وأعمارهم وأولادهم ونقودهم وممتلكاتهم وصمتوا أمام تضحياتهم. عددٌ فقيرٌ ممّن يعمل، أمام جحافل النّاعقين، وعددٌ أفقر ممّن حاربوا بجدٍّ.

جامعٌ وحيدٌ بين جميع هؤلاء، أنّ العدوّ يراهم واحداً. يرى المقاتل والعميل واحداً، لكنّه فقط يخاف المقاوم. يرانا واحداً مع أنّ المقاومة يوم دفعت الدّم في فلسطين لم تستنجد بدماء العملاء ولا المحايدين، بل قدّمت الدماء عوضاً عن كُلّ متخاذل. ويوم انتصرت في تحرير لبنان خرجت لتهدي انتصارها للمتخاذلين قبل المنتصرين، لإلّا يشعروا ببعض العزّ فيفرّقوا بينه وبين الذّلّ. ويوم انتصرت المقاومة في الحرب ضدّ سوريا، لم تخبّئ انتصارها لنفسها بل شاركته مع الجميع ودعتهم للبناء على هذا الانتصار وبه. وقبل أن نفتح ملفّ التّرسيم، علينا أن نفتح دفتر المسلّمات: الأرضُ أرضُنا في فلسطين ولبنان، والعدو عدو لبنان وفلسطين وسورية ولو آخاه نصف شعبنا وأكثر.

التفاوض مع العدو الذي سرق أرضنا، على خيراتنا ومواردنا نحن، هو اعترافٌ من لبنان بأنّ هذا العدو يملك ما يفاوض عليه. وهذه ليست حقيقة الأُمور. فهذا العدو لا يملك ما نفاوضه عليه! ومن أعطاه هذه الملكية، من خلفه، محتلُّ مثله.
هُنا، لا بُدّ من تثبيت بعض المعروفات التي يتغاضى عنها البعض:
-قبل حقّ فلسطين بمواردها، هناك حقٌّ لها بأرضها وبحرها وسمائها، وبقرارها وباستقلالها.
-حقّ فلسطين بمواردها، هو نفسه حقّ لبنان بموارده.
-سرقة غاز فلسطين المحتلّة، هدفه الاستراتيجي اليوم هو مدّ أوروبا بالغاز بعد قطعه عنها من قبل روسيا، وروسيا هذه ضدّ المشروع الاستعماريّ الاميركي، والحلف الاوروبي جزء منه.
-تخلّي الدولة عن الخط 29، أي عن مساحةٍ من البحر السوري لليهود، هو فعل خيانة لا بُدّ من تسميتها باسمها.

عليه، كل الانتصارات التي تروّج لها الدولة اللبنانية، حتّى بمقياسها، ليست انتصارات.
هذا الكلام، حين يصدر عن أصحاب موقفٍ لا يتزحزح في العداء مع اليهود، هو حرصٌ ووطنيّة وتقدير موقف وطني بمقاييس ثابتة. أمّا حين يصدر عمّن يستنسبون العداء، فهو مزايدة وتسجيل نقاط سياسية، ولا علاقة له بالغيرة الوطنيّة، خصوصاً حينما يكون مقياس الصراع لدى الناطق بالموقف ملتبس الأولويّات. وهنا بالمناسبة، الأولوية هي للصراع مع العدو قبل تحديد شكل الدولة ونظامها، وشقلبة هذه الأولويات توقع “المُشقلب” في فخّ الغباء بحدٍ أدنى، وبالحدّ الأقصى: الخيانة.

هُنا، لا بُدّ ان نسأل الغيارى على السيادة: ألم يعد “قرار السلم والحرب” هاجسكم؟ وألم يعد همّكم الأسمى استخراج النفط والغاز؟ ولماذا ما عدتم تنامون دون قرع طبول الحرب التي وصفتم من قرعها قبل الترسيم (وهو ما أخاف العدو حقاً) بـ “المغامرين”؟
الصّدقُ درعُ المعرفة، وهذه الأسئلة تحتاج إجابات صادقة لتثبيت أساسات متينة في التعامل مع الحالات الطارئة الترنديّة، بغية التصنيف، لأنّ الحرب حين تأتي، لن يتساوى فيها من يقلع الشوك من تحت أقدام الشعب، ومن يغرزه في حلقه حتّى يستجدي على ظهره القليل من المساعدات.

وكون ملفّ الترسيم تمّ، ولا تراجع عنه، فإنّ القادم من ملفّاتٍ لا يقلّ أهميّة: التنقيب والاستثمار.
المعركة الآن، هي معركة الحفاظ على الثروات المُحتملة، واستثمارها وتطويرها، وهذا لا يمكن أن يتحقّق إن لم نُعظّم المصلحة الوطنيّة، وهي تعني، حرفيّاً، التصرّف بعكس الـ 30 سنة الماضية، في إدارة ملفّ تنقيب واستثمار الغاز، الذي سيصبح المصدر الرئيسي للطاقة في البلد.

وهنا، لا بدّ من لفت النّظر الى نموذج فنزويلا، وهي من أكبر الدول النفطية، التي يرزح شعبها تحت خط الفقر نتيجة الحصار الأميركي عليها من جهة، والفساد الداخلي من جهة.

نحن، بإمكاننا تفادي الحصار، بتشكيل ورقة قوة تواجهه، لذلك، علينا النظر بمقياس أوسع من الكيانية الضيقة، عبر التخطيط للعمل المشترك مع سوريا والعراق، فيصبح النفط العراقي والغاز السوري والغاز اللبناني، ورقة اقتصادية عظمى نقارع بها العدو.

الأموال التي دخلت لبنان في الـ 30 سنة الماضية، والتي تفوق حجم حاجة أي دولة بحجم لبنان الاقتصادي، لم تمنعه من الانهيار. وبالتالي، فإنّ إيرادات الغاز، لن تكون كافية لانتشاله من انهياره، ما لم تبرز إرادة جامعة ببناء دولة حقيقية بعيدةً من المنطق الطائفي والتحاصصي والزبائني واللاوطني.

صباح الخير