من بلفور أمس إلى اليوم وطوفان الأقصى، المعادلة تتغير

من بلفور أمس إلى اليوم وطوفان الأقصى، المعادلة تتغير

أن يصادف هذه الأيام الذكرى السادسة بعد المئة لوعد اللورد البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى روتشيلد اليهودي الذي وعده فيه بإعطائه أرض فلسطين لليهود، ليس عابراً، بينما لا زالت فلسطين تقاوم رغم مرور كل هذا الوقت

وهو يأتي فيما عملية طوفان الأقصى رغم الدماء ورغم القتل الجماعي الحاصل ورغم الإبادة القومية، لكنها تنتصر منذ يومها الأول، إلى اليوم.

من الثابت أن شعبنا الفلسطيني لم يتخل يوماً عن النضال من أجل أرضه واستعادة حقوقه، حتى عندما كانت تتكالب عيله المؤامرات لاستلاب أرضه وعندما كانت عمليات الإبادة والمجازر جارية، منذ إعلان الوعد في مطلع القرن السابق، في قراه وبلداته دافعة أهلها نظراً لأهوالها، إلى المغادرة واللجوء إلى مواقع أكثر أماناً وسلامة عائلاتهم تحت عنوان مرحلة مؤقتة، ليعودوا بعدها كما اعتقدوا عندما تهدأ الهجمات دون أن يدرك أبعاد المؤامرة التي كانت قد وضعت عند إبرام اتفاقية سايكس – بيكو التي قسمت ميراث الرجل العثماني المريض بين الفرنسيين والبريطانيين، بعدما حكم بلادنا ما يزيد عن 400 عام.

وهكذا جرت تهيئة الظروف “للنظر بعطف” إلى إعطاء اليهود وطن يجتمعون به من كل أصقاع العالم، فوهبت الأرض ممن لا يملك، إلى من لا يستحق.  وهكذا تم سلخ الفلسطيني عن أرضه  وأعطيت لمن احضرتهم أالبواخر البريطانية من اوروبا، وبدأت مذاك معاناة بلادنا، فأصبحت دولة الاحتلال قاعدة للاستعمار الغربي تفعل شقاقاً في الأمة فتسرق ثرواتنا، وتهيمن بموقعها في وسط العالم، على ممرات التجارة العالمية وبلادنا ممر إلزامي لها إلى الأصقاع البعيدة في أقصى الكرة الارضية شرقاً وغرباً.

. . .وصولاً إلى عام 1948 عندما تم إعلان دولة الاغتصاب، كياناً شرعياً من خلال قوانين دولية سنتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

ثم استمر الغطاء الدولي في محطات مفصلية عديدة، جعلت منه منتصراً دوماً في أعوام 1956 أو 1967، حيث تمددت هذه الدولة وصولاً إلى احتلال القدس وغزة علماً أن هذا الكيان، لا يشبع وحدوده  كما هو مثبت على مدخل الكنيست ،”حدودك يا اسرائيل من الفرات الى النيل”.

أما عام 1973، وحرب تشرين فقد جعل الدعم الدولي المكشوف، هذا الكيان منتصراً دوماً، لا سيما وأن العمل على ربط مصر باتفاقية استلام مع العدو كان قد سلك طريقه من قبل الولايات المتحدة الاميركية. وهكذا حصل الإنتقال الى نهج آخر في التعاطي مع دول وكيانات المنطقة من خلال اتفاقيات السلام، فكان كامب ديفيد ثم وادي عربة مع استسلام الاردن وصولاً إلى مؤتمرات التقاعس العربي وثم تنازل ما سمي باصحاب القضية أنفسهم، الفلسطينيين، من خلال منظمة التحرير التي وافقت على اتفاق التخاذل والهوان، أوسلو.

وهكذا نجحت المؤامرة في إسقاط قضية فلسطين، لتصبح حقاً فلسطينياً وحسب وليس حق الأمة كلها، وسلك إعلان دولة فلسطين، على ما نسبته 5 % من مجمل الأراضي الفلسطينية في فسيفساء جغرافية غريبة عجيبة، تجعل من فلسطين دولة بالاسم وعاصمتها رام الله وخاضعة لدولة الكيان الغاصب وحكوماته المتتالية. . . إلى ان تم الانتهاء من حالة ياسر عرفات بالتطويق والحصار والسم أيضاً بعد إقتناعه بالإنتفاضة مجدداً لنيل الحقوق .

. . . وصولاً إلى حكومة محمود عباس، التي تعتبر اليوم عين الاحتلال على المقاومين الذين يرفضون صيغة الاستسلام هذه وسلطتها المرتهنة التي تؤدي إلى استمرار عمليات الاستيطان ومشاريع ضم الأراضي من كل أنحاء فلسطين الجغرافية، وكذلك في القدس التي وصل تنازل الغرب لآداته إسرائيل موافقته  بصيغة مماثلة لوعد بلفور أن تكون القدس عاصمتها.

أما غزة التي انسحبت منها دولة الاحتلال عام 2005، يوم كان شارون رئيساً للحكومة، بعدما أنهكته عملياتها البطولية ضد جيشه ولكنها عادت فحاصرتها حصاراً قاطعاً للأنفاس عام 2006. وكرت ملاحم البطولة من شعب أبى قذفه الاحتلال من أراضي 48  إلى أحضان غزة ومخيماتها المكتظة بأكبر نسبة سكان في العالم، لم يجد أمامه خياراً إلا المقاومة لمواجهة كل الظلم والطغيان لا سيما وأن تحرير المقاومة لجنوب لبنان وانسحاب الاحتلال دون قيود او شروط عام 2000 شكل نموذجاً يفتدى به.

إن حروب دولة الاحتلال على غزة لم تتوقف منذ خطف الجندي جلعاد شاليط عام 2006 بقصد استبداله بالسجناء الفلسطينيين وأدى الأمر إلى إعلان دولة الاحتلال غزة، كياناً معادياً فرضت عليه حصاراً شاملاً فكانت عمليات الرصاص المصبوب عام 2008، حيث استمر العدوان نحو الشهر واستخدمت فيه أسلحة محرمة دولياً مثل اليورانيوم والفوسفور الأبيض.

. . .ثم عام 2012 معركة عامود السحاب، استمرت أسبوعاً، وعام 2014 عملية الجرف الصامد، وعام 2021 اندلعت معركة سيف القدس وسمتها إسرائيل حارس الأسوار. إشارة هنا إلى أن دولة الاحتلال كانت نستبق كل عملياتها بعمليات اغتيال لقيادات المقاومة وعائلاتهم في غزة من حماس والجهاد في منازلهم، وكل هذا كان يدفع المقاومة إلى الرد في عملية حقيقية من الدفاع عن النفس.

كل هذا لم يضعف الغزاويين بل أدى إلى شد عصب المقاومة الفلسطينية دافعاً بهم الى مزيد من التسلح بتقنية الأنفاق التي تعجز إسرائيل عن حلها، كما دفعتهم إلى التحالف مع قوى المقاومة وداعميها في المنطقة.

إن عملية طوفان الأقصى التي  قامت على  فعل المفاجأة أعادت لفلسطين وشبابها وهجاً، افتقدوه زمناً بعيداً  بعدما أعادت العملية قضية فلسطين إلى الوجدان الفلسطيني عامة، والعربي دون قياداته بالطبع وأسقطت دولة الكيان بالضربات القاضية المتتالية.

لقد تباهت دولة الإحتلال طويلاً على بلادنا بقدراتها الخارقة وجيشها الأقوى من بين جيوش العالم، لكن مقاومات بلادنا كشفت ضعف هذا الكيان، فكان شعار “أوهن من بيت العنكبوت،” أبلغ وصف لها.

وسقطت استخباراتياً، يوم أدى تنفيذ عملية طوفان الأقصى إلى خرق المقاومة للجدار الالكتروني الذي ينته دولة الاحتلال بتقنية منقدمة جداً، ومنه دخلت المقاومة الى مستوطنات جدار غزة بالمظليين، بينما المنظومة الأمينة العدوة نائمة أو مسترخية في عطلة سبت الغفران فأسرت ضباطاً وعسكريين وناساً، أرادت من أسرهم مبادلتهم بخمسة آلاف سجين فلسطيني، فيهم النساء والأولاد، لا زالوا يموتون كل يوم  في السجون بأمراضهم وظلمهم، دون أن يحرك العالم ساكناً.

أمام أحكام قانونية عنصرية بعيدة عن القوانين والنظم الدولية، أسقطت عملية طوفان الأقصى كل العظمة التكنولوجية التي طالما تباهت بها دولة الإحتلال ومن خلالها استطاعت ان تطبع مع دول الخليج العربي ومشيخاتهم كما اسقطت عملية طوفان الأقصى، قناع أبناء العمومة الوديع الذي لبسته من خلال الإتفاقيات الإبراهيمية مع العرب والمسلمين وكذلك مسيحيي الغرب وعلى رأسهم بابا الفاتيكان مستعينة بدوره المعنوي لمواجهة الممانعة وقواها التي ترفض إتفاقيات السلام دون عودة الحقوق.

بعد مرور شهر على عملية طوفان الأقصى، فأن دولة الإحتلال ومن معها يحصون الخسائر والهزائم التي لحقت بهم. أولها أنها كشفت أهداف ونوايا الاحتلال لأهل غزة ومعها كل فلسطين، بعدما أعلن نتنياهو قبل أيام معدودة خريطة الشرق الأوسط الجديد من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي لم تذكر فيها دولة تسمى فلسطين بل طغى لون دولة إسرائيل الأزرق على خريطة الضفة الغربية كاملة وكذلك قطاع غزة. بالتالي فإن الترانسفير المعد لأهل غزة للانتقال إلى مصر، معد أيضاً لاحقاً لأهل الضفة للانتقال إلى الاردن. ولذلك فإن عملية طوفان الأقصى سبقت تنفيذ المخطط الذي لم يمر، وهكذا رغم كل ما ارتكبته دولة الاحتلال من تدير وإبادة فهي فشلت في إفراغ قطاع غزة من السكان بعد رفضهم القاطع لارتكاب خطأ أجدادهم  السابق بترك بيوتهم في فلسطين التاريخية، وهم اليوم يقولون، لن نغادر إلا إلى السماء.

باتت المعادلة اليوم، بدل مغادرة الفلسطيني الى الخارج، هناك هروب اليهودي من الكيان المغتصب عائداً إلى أرضه التي قدم منها، وفي التفصيل أعلنت سلطات الاحتلال عن مغادرة 230 ألف يهودي من مطار بن غوريون منذ إندلاع المعارك إلى اليوم.

وفي النتائج أيضاً، أدت العمليات العسكرية إلى توقف كامل لعجلة الاقتصاد العبري الذي كان ناشطاً ليحل مرفأه، في حيفا محل مرفأ بيروت، ولتصبح تل ابيب دولة الاستثمارات المالية مع دول الخليج، محل بيروت ايضاً فأذا بالشيكل ينهار إلى أدنى مستوياته وكذلك أعمال البورصة، بعد توقف العمل في معظم المرافق نتيجة استدعاء جنود الاحتياط وهم موظفين وعمال في القطاعات كافة.

لا يجوز إغفال الواقع الاجتماعي المأساوي الذي ترك أثره والذي نتج عن العملية بعدما أدت المعارك إلى حالة تهجير قسري لمستوطنيها من مستوطنات غلاف غزة،  وأيضا في الشمال أي جنوب لبنان، حيث تم إفراغ مستعمرات الجليل بعمق يصل إلى 20 كلم مربع.

في الخلاصات، يقول شعبنا الفلسطيني للإسرائيلي الغاصب، تقتلوننا ونبقى ونموت في أرضنا ولو متنا تحت الركام. والمجازر اليومية لا تعد ولا تحصى إلى الآن، أما المستوطن وحكومته فهم أمام مأزق كبير بعدما بات العالم لا يصدق أن ما يقوم به هو دفاع عن النفس بل وإزاء صمت دولي هو يقوم بعملية إبادة تستهدف هذا الشعب، فيما العالم الذي تعود الصمت لسنوات بعد التزييف الذي برعت فيه أميركا وربيبتها، ها هي شعوبه تلتهب الآن متضامنة مع صورة أشلاء الأطفال الذين تستهدفهم القنابل دون رادع أو وازع.

وها هو المشهد ينقلب إيجابياً نحو فلسطين ولو رفع مندوب الاحتلال على منصة الأمم المتحدة، يافطة (Never again) قاصداً المحرقة بأنها لن تتكرر، فإذا به يكررها هو وحكومته على الفلسطينيين.

دولة الاحتلال التي تستمر بعمليات الإبادة والقتل الجماعي لمستشفيات وأماكن عبادة مسيحية واسلامية ايضاً، ومدارس واحياء مدنية، لم تتمكن إلى الآن من إنجاز اي نصر سوى القتل، فهل سنقبل بهدنة بات يطلبها الرأي العام الدولي قبل العربي ؟

إن الانتصارات اليوم تؤكد أن قرار استعادة فلسطين قد اتخذ وأن هزيمة هذا الكيان بات حقيقة يدركها القاصي والداني، رغم كل دعم الأساطيل والمساندة والتعبئة الدولية التي أعلنت لحمايته وباتت القضية قصة وقت فقط.

وقد تحققت اليوم مقولة أنطون سعادة، يوم قال، لو وجد فدائي واحد يقتل بلفور….. اليوم هناك آلاف من الفدائيين المقاومين يخلصون أمتنا من بلفور وشيطانه ويصنعون شرق أوسط جديد.

الصحافية كوكب معلوف