بعد أن انقشع غبار حرب تشرين الأولى عام 1973 شكلت الدولة “الإسرائيلية” لجنة للتحقيق في مسؤولية الفشل في هذه الحرب حملت اسم “لجنة اجرانت”، وقد حمّلت هذه اللجنة المسؤولية الى الحكومة “الإسرائيلية”، وكانت نتيجة تحقيقاتها قد أدّت إلى خروج عدد من كبار السياسيين في إسرائيل من الحياة السياسية مثل غولدا مئير، أو بقائهم في مواقع هامشيّة بعد انهيار سمعتهم من أمثال موشي ديان.
لكن في حرب تشرين الثانية هذه لم ينتظر الإسرائيلي انتهاء الحرب ليخوض حربًا داخليّة أثناء قتاله في غزة حول المسؤولية عن الفشل على من تقع. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يحمّل الجيش وجهاز الأمن المسؤوليّة مدّعيًا أنّهم لم تكن لديهم معلومات وأنّهم لم يطّلعوا على حقيقه الموقف، وهؤلاء بدورهم يحمّلون المستوى السياسي المسؤولية، بسبب الفشل في إدارة الحصار على غزة، في حين تتهم المعارضة الحكومة بالتقصير.
في جانب إخر من جوانب الحرب تدير المقاومة المعركة باقتدار لا بالمستوى العسكري والقتالي فحسب وإنّما بالجوانب النفسيّة، فقد استطاعت أن تذكي نار الخلاف “الإسرائيلي الداخلي، وفي أكثر من خطوة. الخطوة الأولى كانت بالإفراج عن بعض النساء من كبيرات السن اللواتي تم أسرهنّ صبيحة السابع من تشرين وذلك لدواعي إنسانيّة وصحيّة، وحاولت الحكومة الإسرائيليّة الضغط عليهن للحديث كذبًا وافتراءً عن سوء المعاملة والطريقة العنصرية التي تعامل معهن فيها آسريهم، ولكن الأسيرات المطلق سراحهنّ امتدحن المقاومة وطيب معاملتها معهنّ ورعايتهنّ غذائيًا ونفسيًا ومن الجوانب الصحية أيضًا.
الخطوة الثانية كانت بالإعلان أنّ نحو 50 أسيرًا “إسرائيليًّا” قد قتلوا بالقصف الوحشي على غزة، ورفضت المقاومة الإعلان عن أسمائهم، الأمر الذي أثار عائلاتهم، إذ افترضت كل عائلة لها أسير في غزة أنّ ابنها في عداد الخمسين قتيلًا، مما جعل من قضيه الأسرى وتحريرهم النقطة الأكثر مركزيّة لدى المجتمع الإسرائيلي ولدى الراعي الغربي في العواصم الأوروبية كما في واشنطن، و دى الوسطاء الذين لا يريدون من الوساطة إنهاء الحرب وإنقاذ أرواح الأبرياء من أهل غزة، وإنما الإفراج عن هؤلاء الأسرى مقابل أثمان بخسة لا ترضى بها المقاومة التي تعرف جيدًا قيمة ما لديها.
من هنا يتردد في الأنباء، والتي نرجو أن تكون صحيحة، أنّ المقاومة قد أبلغت من يهمّه الأمر أنها تضع ملف الوساطة في مسألة الأسرى لدى كل من ايران حليفتها وقائدة محور المقاومة، وقطر التي تستضيف بعض قادة حركة حماس.
قطر تعرف جيدًا أنّ هذا الملف يتجاوز قدرات ضيوفها من القادة السياسيين لحركة حماس، وأنّ حضور ايران هو بد لا بد منه، وهي تعرف بتجربتها خلال سنوات جلوس ترامب على عرش البيت الأبيض و حين حاصرها و معه حلفاؤه من الجيران والأخوة وأغلقوا معها الحدود البرية والبحرية وصولًا الى منع الطيران المدني القطري من عبور الأجواء فلم تجد قطر من ينقذها إلا ايران.
خبر وضع ملف الاسرى “الإسرائيليين” بيد إيران وقطر له قراءة سياسية، ويحمل رسائل لا بد من أنّ من أُرسلت إليه قد وصلته وتلقّاها وفهمها جيدًا، والمُرسل إليه هنا هو كل من القاهرة ورام الله، القاهرة التي طالما كانت تحتكر ملف غزة سياسيًا وأمنيًا بحكم تجبر الجغرافية، فيما تشارك في حصار غزة ولا تزال تغلق معبر رفح فلا تدخل عبره سوى بضع شاحنات تحمل كما يفترض شيء قليل من الدواء والغذاء وربما الأكفان، وغزه التي كانت في سابق معاركها تلدغ من ذات الجحر المرة تلو المرة، لكن من يدير المعركة الحالية لا يريد أن يلدغ من ذات الجحر، إذ يكفيه أن يلدغ مرة واحدة، فلا يمكن أن تسمح قيادة المقاومة بأن تخوض كل هذه المعركة من أجل تحقيق بعض الشرعية والمكاسب الشخصية والإعلامية في الصحافة الأجنبية لقائد أو رئيس. وتشعر قيادة المقاومة أنّ القاهرة تريد تعويم السلطة الفلسطينية شبه الصامتة إلا من مواقف تبدو في جانب منها أقرب الى الحياد في المعركة مع شيء من التعاطي الإنساني أو الحديث عن التهجير. وفي جانب آخر تجد رام الله أنّ ما يقلقها هو أن تكون هذه المعركة قد أجهزت على مشروعيتها كسلطة، فعادت الى إخراج دفتر منظمة التحرير من الخزائن، و هو الملف الذي كان مهملًا ومنسيًّا، للتأكيد على أنّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
يفترض أنّ غزة مسؤولية مصرية، و كانت من يحكمها ومن خسرها في حرب حزيران 1967، و بالتالي فمسؤولية استعادتها مسؤولية مصرية أولًا، وأكثر من ذلك فهي الأهم في نظرية الأمن القومي المصري، ولكن تلك مصر التي أحب وأتمنى أن تكون، لا مصر التي لا تعبأ بأمنها القومي والتي تعترض حتى الآن على تهجير الفلسطيني الى سيناء و لكنها لا تجد مشكلة في تهجيره للنقب.
سعادة مصطفى ارشيد
جنين- فلسطين المحتلة