بالإضافة لخرافات الأمن الحديدي والجيش الصهيوني الذي لا يقهر، التي أسقطها المقاومون الفلسطينيون في السابع من أكتوبر وفضحوا من خلالها خطاب العجز والتخاذل والتواطؤ للنظام الرسمي العربي التابع، فإن الخرافات الأخطر والأكثر شيوعا في صفوف هذا النظام ومناخاته ومنابره، التي سقطت في غزة، هي خرافات التسوية والتعايش مع العدو الصهيوني، والليبرالية وخطاب حقوق الإنسان معزولا عن القضايا الوطنية والقومية، وخرافة الطبعة الغربية من العلمانية:
أولا، خرافة التسوية والتعايش مع العدو، التي لم تسقط في الفضاء الشعبي العربي فقط، بل وفي فضاء القوى الثلاث التي انخرطت مبكرا في أوهامها: مصر كامب ديفيد، وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية عبر أوسلو، ومعاهدة وادي عربة بين الأردن والعدو، فمشروع الترانسفير الصهيوني راح يهدد هذه القوى قبل غيرها، ويطرح علامات استفهام كثيرة حول المصير الوجودي لبعضها، ناهيك بالتداعيات الاقتصادية الأخرى التي رافقت هذه الاتفاقيات مثل الشروط التي وضعها البنك وصندوق النقد الدوليين بالتزامن مع الشروط السياسية واستهدفت تفكيك الدولة تحت عناوين إعادة هيكلة القطاع العام والمؤسسة العسكرية والعديد من مؤسسات السيادة الأخرى، وما أدى إليه ذلك من تفسخ وإفقار القاعدة الاجتماعية لها، وهي الطبقة الوسطى لصالح حيتان السوق والاقتصاد الطفيلي والفساد.
من جهة أخرى فإن خطاب التسوية المزعوم اصطدم سياسيا وموضوعيا مع التشخيص العلمي والتاريخي لقانون الصراع، بوصف الكيان الصهيوني موضوع تناقض تناحري أساسي لا يحسم إلا بالاشتباك والقتال وخطاب المقاومة، حيث أدى تغييب هذا الخطاب إلى ما أدى إليه، أولا، من وهن اجتماعي وسياسي برسم التوظيف في لحظة مصيرية كاللحظة الراهنة وما حملته من مشاريع خطيرة مثل الترانسفير، وثانيا من خلط للتناقضات والأولويات وإزاحة الخطر الأساسي ممثلا بالخطر الصهيوني لصالح أخطار مختلقة مثل الطائفية والجهوية وما تحمله من بذور مدمرة، إما لحروب أهلية بلا معنى سوى خدمة العدو، وإما لمزيد من التمزيق والتقسيم باسم اللامركزية والسياسية وفدرالية الطوائف.
الخرافة الثانية، التي سقطت على غلاف غزة، هي خرافة الليبرالية وأدواتها وخطابها المزعوم عن حقوق الإنسان والمواطنة والمجتمع المدني، وغير ذلك من قاموس الثقافة المركزية الأوروبية للمتروبولات الرأسمالية، الذي استهدف من هذا الخطاب اعتراض واستبدال الخطاب الحقيقي المطلوب في هذه المرحلة، وهو خطاب التحرر الوطني والقومي الذي يتضمن بالضرورة قضايا حقوق الإنسان والمواطنة وتمكين النساء، ولكن بالربط الجدلي مع القضايا الوطنية والقومية.
بالإضافة إلى تغييب الغرب الرأسمالي نفسه للشروط الموضوعية للمواطنة والمجتمع المدني والديموقراطية، وذلك بضرب المشروع القومي كبيئة موضوعية لتطور علاقات الإنتاج وانعكاس ذلك في تشكيلة اجتماعية تتجاوز المجاميع الطائفية والجهوية ما قبل الرأسمالية لصالح مجتمع مدني معاصر، ها هي أقنعة الغرب الليبرالي نفسه تتساقط الواحد تلو الآخر في رمال غزة، وهو يعلن على لسان مراكزه الأساسية، الأمريكية والأوروبية عن دعمه المطلق وبلا حدود لماكينة القتل الصهيونية بحق المدنيين والسكان العزل وبيوتهم ومساجدهم وكنائسهم ومدارسهم ولا يرف له جفن وهو يرى الآباء والأمهات يجمعون أشلاء صغارهم في الأكياس وما تبقى من قمصان محروقة.
ثلاثة قرون من الإعلانات والمواثيق والبروتوكولات الخاصة بحقوق الإنسان انطلاقا من باريس ولندن وجنيف وبرلين وغيرها، ومبادئ ويلسون.. الخ، احترقت في ساعات قليلة على لسان مجرمي الغرب الرأسمالي وهم يقرعون طبول الحرب والموت مع ثكنة الإجرام الصهيونية الهمجية ويمشون مع يهوه، رب الجنود التوراتي وهو يشق طريقه عبر نار وقودها الأطفال والحجارة.
الخرافة الثالثة هي خرافة الطبعة الغربية من العلمانية، حيث استعاد الغرب الرأسمالي وعلى رأسه التحالف الانجلو سكسوني، الأمريكي البريطاني جوهره التوراتي المحمول أيضا بخطاب عنصري يرى الجنوب والشرق والآخرين عموما جماعات من الإغيار الكفار الأقرب إلى البهائم الذين يحل قتلهم وحرقهم.
صحيح أن ثمة أوساطا واسعة في أوروبا لا تذهب إلى الكنسية ولا تكترث بتراث أوغسطين وتوما الاكويني حول مدينة الله، لكن البعد التوراتي السابق المذكور غير العلماني لم يغادر العقل الأوروبي الجمعي ويكشف عن نفسه تلقائيا في المحطات الحاسمة مثل محطة غزة.