مع حلول الرابع والعشرين من الشهر الحالي تدخل العملية شهرها التاسع على عكس توقعات كثيرة بأن هذه العملية لن تستغرق اكثر من شهر على الأكثر ، علماً بأن عدداً قليلاً من المتابعين والخبراء كان مدركاً انّ هذه العملية ستطول وسيكون لها تداعيات تتجاوز مسرح عملياتها في أوكرانيا .
إضافة الى التداعيات كان مؤكداً انّ هذه العملية ستأخذ العالم برمتّه الى تحولات جذرية في شكل العالم ومضمونه وهو ما سيحصل عبر مخاض موجع وعسير ومكلف لكن بخاتمة مرضية لكثير من الدول والشعوب .
بداية لا بدّ من تعريف العملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا وتحديد أهدافها لكن قبل تعريفها لا يمكن تجاوز الأسباب السابقة والمستجدة والتي ساهمت في تكوين الظروف للوصول الى هذه المرحلة .
تاريخياً ولمدّة طويلة كانت أراضي الدونباس وزاباروجيا وخيرسون واوديسا ونيكولاييف وكييف وخاركوف جزءاً من الأمبراطورية الروسية حتى انّ كييف كانت تُسمّى كييف الروسية ، في حين ان باقي المناطق كانت تُسمّى ” نوفا روسيا ” او روسيا الجديدة .
مع بداية تشكُّل الإتحاد السوفياتي ضمّ قادة الإتحاد أجزاء من جمهورية روسيا الإشتراكية لجمهورية أوكرانيا الإشتراكية وهي نفسها أجزاء من الأراضي التي انضمّت منذ فترة مجدداً الى الإتحاد الروسي .
وفي حال كانت الخطة الروسية الغير معلنة بكاملها تتضمن استعادة كييف الروسية ومناطق ” نوفا روسيا ” فهذا يعني استكمال العمليات لتحقيق السيطرة على كامل الضفة الشرقية لنهر الدنيبر من شمال أوكرانيا حتى جنوبها وعلى الأجزاء الوسطى والجنوبية لنهر الدنيبر بما فيها اوديسا ونيكولاييف .
امّا وان المقاربات يجب ان تنطلق من الوقائع فيمكن القول ان جزءاً كبيراً من ” نوفا روسيا ” قد عاد الى الحضن الروسي والذي يضّم جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك ومقاطعتي زاباروجيا وخيرسون والتي يسميها الروس عودة هذه الأجزاء الى الوطن الأم وليس ضمّها كما هو شائع .
بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي بقيت أراضي ” نوفا روسيا ” تحت سيطرة أوكرانيا التي جرت فيها تحولات كبيرة وخطيرة وبدء أوكرانيا في التحول الى الحضن الأميركي والغربي وظهور الفكر النازي على نطاق واسع وإصدار حزمة واسعة من القوانين التي تشجع على الشوفينية وممارسة العداء على الناطقين باللغة الروسية وهم غالبية سكان المناطق التي عادت الى روسيا كنتيجة من نتائج العملية الروسية .
بعد انقلاب 2014 على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش والتي سمّاها الغرب ب ” ثورة الميدان الأوروبي ” و ” ثورة الكرامة الأوكرانية علماً بأن يانوكوفيتش كان مقرباً من موسكو ومعترضاً على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وبعد سلسلة من المواجهات العنيفة اسفرت عن تولي بترو با راشنكا المعادي لروسيا دخلت أوكرانيا في حقبة جديدة اتخذ الرئيس بوتين على اثرها قراراً بالدخول الى شبه جزيرة القرم ودعم الحركة الشعبية في لوغانسك ودونيتسك .
وعلى الرغم من اتفاقية مينسك وتفاهمات كثيرة استمر النظام الأوكراني الجديد باستفزاز روسيا وتهديد امنها القومي من خلال الدعوة للإنضمام الى حلف الناتو وإقامة عشرات المختبرات البيولوجية بإدارة خبراء اميركيين والتفكير الجدي بحيازة أسلحة نووية وهو الأمر الذي فاوضت عليه روسيا ل 8 سنوات متتالية ولم تصل من خلال المفاوضات الى نتيجة تُنهي التهديدات للأمن القومي الروسي .
هذا في الأسباب التاريخية والمتراكمة ، امّا في الجانب المباشر للعملية وعلى الرغم من ان الجيش الروسي فيها كان في وضعية الهجوم الاّ انّها عملية دفاعية بحتة حيث كانت القيادة الأوكرانية قد حددت يوم 28 شباط موعد الهجوم على إقليم الدونباس وحشدت لهذا الغرض حوالي 90 الف جندي اوكراني لكن العملية العسكرية الروسية الإستباقية منعت الجيش الأوكراني من تنفيذ الهجوم .
ومع بدء العملية العسكرية الروسية حدّد الرئيس بوتين مجموعة من الأهداف يمكن ايجازها ب :
1- منع أوكرانيا من امتلاك قدرات تسليحية يمكنها ان تهدد الأمن القومي الروسي وهو ما تحقق منه القسم الأكبر حيث فقد الاسطول البحري الأوكراني كامل قطعه الأساسية ، إضافة الى تدمير غالبية دبابات القتال الأوكرانية الرئيسية ، و80% من سلاح الجو الأوكراني وغالبية قطع المدفعية الثقيلة والراجمات وهذا ما يفسر اعتماد الجيش الأوكراني على الراجمات والمدفعية الغربية ، وباختصار يمكن الجزم ان هذا الهدف قد تحقق بنسبة عالية .
2- منع أوكرانيا من تصنيح سلاح نووي وهو ما يفسر سيطرة روسيا السريعة على محطة زاباروجيا المؤهلة لعملية تصنيع قنبلة نووية وسخة .
3- تحرير وحماية الدونباس وهو ما تمّ تجاوزه من خلال تحرير كامل جمهورية لوغانسك و60% من جمهورية دونيتسك إضافة الى سيطرة روسيا على 89% من مقاطعة زاباروجيا و97 % من مقاطعة خيرسون واجراء استفتاء شعبي جاءت نتائجه عالية سبق قبول بوتين طلبات انضمام هذه المناطق الى الإتحاد الروسي .
4- اجتثاث النازية وهو هدف يحتاج تحقيقه الى وقت طويل ويتطلب تغييراً جذرياً في بنية النظام الأوكراني وما يتحقق منه الآن هو القضاء على التشكيلات العسكرية للجماعات النازية في أوكرانيا ، علماً انّ عملية تسميم لعقول الأجيال الأوكرانية حصلت على مدى عقدين من الزمن باتت فيها روسيا هي العدو واصبح الغرب وعلى رأسه اميركا الجنة الموعودة .
في تداعيات العملية :
من المؤكد ان روسيا على المستوى الإستراتيجي باتت تسيطر على غالبية مناطق مناجم الفحم والمعادن في لوغانسك ودونيتسك وهي المنطقة الصناعية الأساسية في أوكرانيا إضافة الى بسط السيطرة على 60% من الأراضي الخصبة لأوكرانيا في زاباروجيا وخيرسون وعلى كامل شواطيء بحر آزوف الذي اصبح بحراً روسياً داخلياً وعلى 50 % من شواطيء أوكرانيا على البحر الأسود وهو ما يعني تحكم روسيا بمعابر أوكرانيا البحرية .
على المستوى التكتي والعملياتي من المتوقع ان تعود العملية الروسية الى زخمها بعد استكمال مضمون مرسوم التعبئة الجزئية الذي استدعى 300 الف جندي الى الخدمة علماً بأنّ 200 الف منهم يخضعون لبرامج أعادة تأهيل في حين ان 33 الف منهم انضموا الى الوحدات القتالية وبات 16 الف من ال 33 الف يخدمون على الحد الأمامي وهو ما سيغير في شكل ومضمون العمليات القادمة .
إضافة الى البعد العسكري تخوض روسيا معركة فكرية – ثقافية وأخرى اقتصادية انطلاقاً من تحديد الرئيس بوتين لطبيعة المواجهة التي تخوضها روسيا وهي مواجهة الهيمنة الأميركية وهو التعريف الذي اشرت اليه في بداية المقال والذي سنتابع مقاربته في مواضيع أخرى إضافة الى البعد الميداني .
عمر معربوني-باحث في الشؤون السياسية والعسكرية