من بديهي القول أنّ وجود المشروع المعادي على أرض بلادنا هو سبب الصراع الأساسي، ولكن كل جولة قتال يكون لها أسبابها الفرعية والمباشرة، كما في هذه الجولة، جولة حرب تشرين الثانية. ولعلّ السبب المباشر لها هو أنّ الجانب المعادي في إسرائيل، حكومة ومعارضة وجمهورًا، قد أصبح لديهم إجماع، إذ يرون ضرورة شطب المسألة الفلسطينية بالكامل، ويرون أنّ الوقت قد أصبح مناسبًا، والإمكانيات متاحة لفعل ذلك، خاصة مع انكشاف الوضع العربي الذي يصارع بعضه حروبه الداخلية التي فرضت عليه وأصبحت تستنفذ طاقاته، كما هو الحال في الشام و العراق، وإمّا أنّه ينتظر الوقت الذي يراه قد أصبح قريبًا للكشف عن وجهه الحقيقي للإعلان عن شراكته الكاملة مع دولة الاحتلال، وتطبيعه معها، وهو الأمر الطبيعي فأنظمة التجزئة القومية خرجت من ذات الرحم غير الشريف الذي خرج منه المشروع الصهيوني، فهم من ذات الطينة والطبيعة.
أصبحت هذه الأنظمة والقيادات ترى في المسألة الفلسطينية مسأله زائدة وحمولة لا داعي لها يجب الخلاص منها ومن أصحابها، حتى أولئك الذين يتماهون ويجاملون ويسالمون العدو وينسّقون معه ويعملون في خدمته، فهم لن يكونوا لدى (إسرائيل) والمشروع الغربي، إلا أوّل ما يلتقم ولكن آخر ما يبتلع حسب قول المفكر عبد الرحمن الكواكبي. ولا يدرك لا الفلسطيني الرسمي ولا العربي الرسمي أنهما أيضًا هدف قادم للمشروع المعادي بعد التخفف من الحمولة الزائدة والتي لا يحول دون الخلاص منها إلّا مقاومتها التي رأيناها منذ أيام.
هدف المقاومة من هذه المواجهة هو ضرب التوجهات الرسمية ونتائج القمم الأمنية التي عقدت مؤخرًا، والتي جعلت المقاومة تستشعر أنّ السكين قد أصبحت قريبه من الرقبة، فكان ما كان صبيحة السابع من هذا الشهر بشكل تمّ الاعداد له بدقة وبنجاح باهر، وبما فاجأ الصديق و العدو، وأثبت تهافت القوى المعادية وقدراتها الأمنية التي توهمها العقل المهزوم. أمّا هدف الحكومة الإسرائيلية المعلن اليوم هو استكمال مشاريع القمه الأمنية بغطاء دولي وقح وبغطاء عربي صامت محايد يساوي بين الضحية والجلّاد، وأقصى ما لديه الحديث عن إدخال الماء والكهرباء والغذاء وفتح الممرات الآمنة، وهو إن تطوّر مع فداحة المجزرة فقد يصل الى حدود إبداء القلق و شيء من الإدانة. وتنفيذيًا فإنّ الإسرائيلي يعلن أنّه يريد القضاء نهائيًّا على المقاومة.
دمّرت إسرائيل شمال القطاع بالكامل وهي مستمرة في تدميرها وقتلها تمهيًدا لاجتياحه بريًا، هذا ما يقوله إعلامهم. ولكن ذلك إن حصل فما هي الخطوة التالية؟ هل هي البقاء في القطاع وإعادة احتلاله بعد تفريغ جزء كبير من سكانه وترحيلهم الى سيناء، أم تسليمه للسلطة في رام الله، أو للحكومة المصرية؟
الجواب برسم الأيام القادمة، ولكن مع وجود احتمال بأنّ إسرائيل قد لا تحتاج أصلًا للقيام بهجوم برّي، فلم يبقَ في شمال القطاع إلّا الأبراج المهدّمة والبيوت التي سويت بالأرض، لم يبقَ إلّا الخرائب الخاوية على عروشها من سكانها.
لا ينتظر أهل غزة، ومعهم الأحياء في هذه الأمّة النجدة والعون من محور متحالف مع الغرب الذي تملك دولة الاحتلال عضوية فيه من الدرجة الاولى، بل إنّهم ينتظرون النجدة والعون من الحليف والشريك محور المقاومة ومِن مَن تحدّث عن وحدة الساحات، وقد طال الانتظار، مع الإدراك أنّ احتمال ألّا يحدث اجتياح بري قائم والذي نسمع أنّه يمثّل إشارة البدء في مشاركة محور المقاومة في هذه الحرب.
هذا هو الامتحان الأكبر لمحور المقاومة، ونستذكر جميعًا حرب عام 2006 وكيف عشنا نتائج هذا الانتصار لفترة طويلة من الزمن. هذه المعركة تأتي في ذات السياق وهي لن تتكرر لأكثر من عقد قادم من الزمن والفوز بها أو عدمه هو ما سيحدّد شكل العقد القادم.
ممّا يخطر في البال وممّا يصلح للتذكير ما حدث في عام 1492 عندما كان أهل غرناطة في الأندلس المحاصرون في مدينتهم من التحالف القشتالي الأراجوني يقفون على أسوار مدينتهم، وكلما لاح لهم خيال بالأفق هتفوا معتقدين أنّ النجدات قد أتتهم من المغرب و مصر و الشام، مما كان يعزز من صمودهم ولكن المدينة لم تنهر وتستسلم الا عندما قتلوا ذلك الأمل.