استيقظت الدولة اليهودية الزائلة أمس على مشهد “سوريالي” لم تتوقعه في تاريخها، حيث قامت المقاومة بضربة استباقية تمثّلت باقتحام مستوطنات غلاف قطاع غزّة والاشتباك من مسافة صفر مع جيش العدوّ والمستوطنين، وذلك ردّاً على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين. وفي ظل غطاءٍ صاروخيٍ مكثف استهدف منظومات القيادة والسيطرة لدى العدو، تمكّن المقاومون من اجتياز الخط الدفاعي للعدو، وتنفيذ هجوم منسق متزامن على أكثر من 50 موقعاً. أدى الهجوم إلى وقوع أكثر من 700 قتيل و2150 إصابة بحسب ما نقلت القناة 12 عن “نجمة داوود الحمراء” وحتى لحظة كتابة هذه السطور، وأسر العشرات من القادة والجنود والمستوطنين.
ما هي تبعات هذا الهجوم ودلالاته؟ وما الذي تسعى المقاومة لترسيخه في هذه الحقبة من تاريخ الصراع؟
لقد قدّم المقاومون فصلاً جديداً في شكل الصراع، ولقّنوا العالم درساً نموذجياً في مشهد تاريخي ستذكره الأجيال وتستوحي منه الشعوب المستضعفة في معارك التحرير. وجسّدت هذه العملية بشكلها ومضمونها إرادة شعبنا الذي يقبع تحت غطرسة الظلم والقهر منذ ما يزيد عن 70 عاماً، إرادةٌ فاعلة بإمكانيات ضئيلة داخل كيلومترات مربعة قليلة محاصرة منذ عام 2005.
الدلالات التي جسّدها “طوفان الأقصى” تختصر جزء من قدرات المقاومة التي تعمل على بنائها وتطويرها منذ أعوام، حيث شملت العملية هجوماً بريّاً وبحريّاً وجويّاً في آن معاً. لقد تسلل المقاومون الفلسطينيون إلى مغتصبات غلاف قطاع غزة بعد عملية جرف للسياج الحدودي وعبر وحدات الضفادع البشرية من البحر، إضافةً إلى مظليين من فوج “الصقر” التابع لكتائب القسام استخدمت فيه الطائرات الشراعية بمشهدية تذكّرنا بالعمليات الانغماسية التي كانت المقاومة تقوم بها سابقاً داخل الأراضي المحتلة، وكعنصر من عناصر الحرب النفسية والتكتيكات المستفادة من دروس سابقة، التي تركت أثراً واضحاً على معنويات الجبهة الداخلية “الإسرائيلية”.
في المرحلة الأولى، وخلال تغطية صاروخية كثيفة من قطاع غزّة دخل المقاومون بريّاً مباغتين القوى الأمنية “الإسرائيلية” عبر عسقلان تزامناً مع مرور إحدى دوريات شرطة العدوّ التي اعتقدت أنهم من ضمن دوريات الأمن “الإسرائيلي”، ما يدلّ على مكامن قوة المقاومة في العمل الاستخباراتي والأمني، ويدل أيضاً على إخفاق كارثي لأجهزة استخبارات العدوّ المتطوّرة في الرصد والتحسّس. وهذا ما أكّده الإعلام العبري خلال اليومين الماضيين، حيث تعرّض الجيش والشاباك لانتقاد لاذع لم يشهده الكيان في أي جولة من جولات الصراع.
تكلّفت الدولة اليهودية الزائلة مليارات الشواكل على تشييد سياج الكتروني وقد انتهت من بنائه العام الماضي مدعّمةً إياه بحائط اسمنتي تحت الأرض، لكن المقاومة وخلال أقل من ساعة كانت قد اخترقت التحصينات الأمنية ببراعة لم نشهد لها مثيل، أقل ما يقال عنها أنها “عملية نظيفة مئة بالمئة”، إلى درجة تشعر أنّك في مسلسل “money heist”. وقد تحدّث الإعلام العبري عن هذا الأمر قائلاً أن “الفلسطينيين الذين اقتحموا المستوطنات تجاوزوا جدارين فوق وتحت الأرض مجهزين بأفضل التقنيات التكنولوجية والهندسية على مستوى العالم، حدود القطاع مع الكيان كان يفترض أنها الأكثر حصانة في العالم وهذا ما جعل المباغتة الفلسطينية صادمة ومضاعفة لمن اعتقدوا أنهم في أمانٍ تام”.
إلى ذلك، شُلّ نظام الإنذار “الإسرائيلي” الذي يُستخدم عادة لتنبيه المستوطنين بحدوث حالات طارئة في اللحظة الأولى للعملية، من قبل قراصنة مجهولين. يتحدّث الإعلام العبري عن هجمات رفض الخدمة الموزعة حيث يقوم المقرصنون بإغراق أجهزة حاسوبية للهدف بحركة مرور كثيفة بهدف تعطيل الخدمات المتصلة عبر الشبكة العنكبوتية. حاولت وحدة المعلوماتية في جيش العدو الردّ على هذا التشويش باختراق خوادم في الشبكة التي تغطي قطاع غزة ظنّاً منهم أن المقرصنين يعملون من داخل القطاع لكنّهم فشلوا في تحديد مركزية الاتصال. أيضاً هذا الإخفاق له دلالاته في عالم الحروب الإلكترونية.
إضافة إلى ذلك، ما زال المستوطنون وجنود الجيش حتى هذه اللحظة غارقين في حالة من الذعر والخوف وانعدام الأمن. هذه الحالة سوف ترافقهم ولها تداعياتها على المستوى النفسي وسوف تؤثّر بشكل كبير على الهجرة المعاكسة، ومشهد الطوابير التي تنتظر في مطارات العدوّ أمس خير دليل على تداعيات “طوفان الأقصى”. نعم ربّما نشهد في الفترة المقبلة تحرير فلسطين من دون إطلاق رصاصة واحدة.
في ظل سعي حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرّفة لتصفية المسألة الفلسطينية والقضاء على أي شكل من أشكال المقاومة عبر طرح حلّ “الدولة الواحدة” يعيش فيها الفلسطينيون كرعايا، والسعي لتوسيع دائرة الاتفاقات “الأبراهيمية” من خلال التطبيع مع المملكة العربية السعودية، للمرة الأولى على الإطلاق، تشتبك المقاومة مع جيش العدو وفرقه الأمنية داخل المستوطنات وهذا أيضاً سوف يؤسس لمرحلة جديدة في الصراع “بداية زوال الكيان”. إلى ذلك، إن عملية “طوفان الأقصى” ستكبّل قدرة الدولة اليهودية الزائلة على مواصلة أجنداتها التي ترمي إلى تصفية المقاومة والمسألة الفلسطينية. إن هذا الطوفان سوف يغرق الكيان المؤقت بعواقب وخيمة على الصعيد السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والاجتماعي.
على الرغم من محاولات العدوّ المستمرة منذ أشهر لفصل الساحات وتقطيع أوصال المقاومة، أتت عملية “طوفان الأقصى” للتأكيد على “وحدة الساحات” شكلاً ومضموناً، حيث تحدّثت وسائل إعلام العدو عن أن غرفة العمليات المركزية التي تدير هذا الطوفان مشتركة بين فصائل المقاومة ومركزها في بيروت. إضافة إلى ذلك، أرسل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وحزب الله أمس رسالة إلى العدوّ مفادها أنهما جاهزان للدخول في الحرب متى دعت الحاجة. وقد بثّ الإعلام الميداني التابع لنسور الزوبعة أمس فيديو يؤكّد على جهوزية فصائله للدخول في المعركة، في حين استهدفت مجموعات الشهيد القائد الحاج عماد مغنية في المقاومة الإسلامية صباح أمس ثلاثة مواقع للعدوّ في منطقة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، موقع الرادار وموقع زبدين وموقع رويسات العلم بأعداد كبيرة من قذائف المدفعية والصواريخ الموجّهة. مفاد ذلك كلّه، تحذير “إسرائيل” من الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية والتأكيد على “وحدة الساحات”.
ما تم إنجازه في هذه الجولة وحتى الساعة يؤسس لمرحلة جديدة لم يسبق للدولة اليهودية الزائلة أن عاشتها أو ذاقت بعضاً من مرّها سابقاً. الكيان يحتضر ومن ثم موتاً سريرياً فزوالاً نهائياً… والمقبل من الأيام والجولات يؤكّد صحّة هذه المعطيات.