طوفان الأقصى ومجزرة حمص في العقل التركي

حيث تواصل القوات التركية احتلالها مناطق في شمال سوريا والعراق وتضرب يمينا وشمالا دون تمييز بين المدنيين والمقاتلين، يدعو الرئيس التركي (الإسرائيليين والفلسطينيين) دون تمييز بين المحتلين وبين الشعب الفلسطيني إلى ضبط الأعصاب والتهدئة ويظهر هنا بالذات على شكل حمامة سلام.
لماذا؟ لأن طوفان الأقصى ضد العدو الصهيوني أربك مخططاته شمال سوريا، ومن ذلك التوظيف السياسي السافر لمجزرة الكلية الحربية السورية في حمص، والتي أدت إلى استشهاد عشرات التلاميذ الخريجين وعائلاتهم وبينهم عشرات الأطفال والنساء، وهي المجزرة التي شارك فيها حزب إرهابي معروف للقاصي والداني بعلاقاته مع تركيا.
وليس بلا معنى توقيت العملية الإرهابية في ذكرى حرب تشرين ضد العدو الصهيوني ودور الجيش السوري فيها، مقابل توقيت طوفان الأقصى في ذكرى هذه الحرب، وانعكاس ذلك في الحالتين على الموقف التركي.
في الحالة الأولى، كجزء من استراتيجية غير معلنة لتمزيق سوريا والمنطقة على أسس طائفية، تخدم تقاسما وظيفيا تركيا – إسرائيليا تحت عناوين الكانتونات المتصهينة والولايات العثمانية، والحالة الثانية بما مثلته من “خربطة” وتشويش على الحالة الأولى.
إلى ذلك، وفيما يخص مشروع التقاسم الوظيفي الصهيوني – العثماني، وفي مناخات الانهيار السوفياتي وتهيئة المنطقة في مئوية سايكس- بيكو، لتفكيك دويلاتها وصناعة خرائط سياسية جديدة تحت عنوان (شرق عربي بلا دول)، توزّعت الاستراتيجية الأميركية بين خيارين وقوّتين بديلتين لأيّ مشروعٍ عربيٍ مركزي.
فمن (الانبعاث الصهيوني المزعوم) إلى الانبعاث العثماني كما ظهرا في مشروعين مُبكرين على هامش الشرق الأوسط الكبير، الذي كان يُناقَش في المطابخ الأميركية ومراكزها التقليدية (البنتاغون والمخابرات والخارجية والمعاهد المُرتبطة بها)، فيما بدأت التصوّرات التركية مُبكراً في عهد أوزال وجماعة الأطلسي الجنوبي.
وتبلورت عبر جماعة الإسلام الأميركي، ممثّلة بحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، ترافقت التصوّرات الصهيونية مع سلسلة سيناريوهات لتمزيق المنطقة ودولها ومجتمعاتها إلى كانتونات طائفية وجهوية، وإعادة تركيبها تحت السيطرة الصهيونية بعناوين شتّى، من الشرق الأوسط الجديد، كما رسمه بيريز إلى ما يُعرَف بكونفدرالية الأراضي المُقدَّسة.
وقد استلزمت كل هذه السيناريوهات عند الطرفين الصهيوني والتركي، وبرعاية أقلام الاستخبارات الأطلسية وخاصة الأميركية، إطلاق ما عُرِفَ بالربيع العربي، على غرار تفكيك المعسكر الاشتراكي بدءاً من ربيع براغ، مروراً بربيع بولندا والثورات الملوّنة في أوكرانيا وجورجيا ويوغسلافيا وانتهاء بموسكو..
وكما تولّى الفاتيكان تغطية أكثر من ربيع شرق أوروبا، لعب الإسلام الأميركي دوراً مُماثِلاً في الربيع العربي، كما كان مُلاحظاً في كل البلدان العربية المُستهدَفة بالتفكيك الناعم أو بالقوّة، تبني أدوات التفكيك من إسلاميين وليبراليين لشعار اللامركزية باسم مواجهة وتصفية الشمولية.
في هذا السياق، دخل العدو الصهيوني من جهةٍ، وجماعة الإسلام التركي الأردوغانية، من جهةٍ ثانية، في علاقة مُزدوجة لتمزيق المنطقة العربية ووراثتها، ضمن التحالف تارةً والتنافُس تارةً أخرى، من دون أن يصل هذا التنافُس إلى درجة الصراع التناحري بدلالة علاقة الطرفين وموقعهما المباشر وغير المباشر في الأطلسي الجنوبي واستراتيجية الاستخبارات الأميركية البعيدة المدى.
وقد احتلّت سوريا والعراق أهمية قصوى عند الطرفين، التركي والصهيوني، بل أن أنقرة وتل أبيب تكاملتا بصورةٍ كبيرةٍ لتحطيم هذين البلدين ومحاولة تمزيقهما طائفياً: سوريا بما تُمثّله من ركيزة لبناء سوريا التاريخية، أو سوريا الكبرى، مقابل (إسرائيل الكبرى)، والعراق بما يُمثّله من تاريخٍ وموارد.
أيضاً، لم تغب دوائر التنافُس والتحالف التركية – الصهيونية عن أيّ حدثٍ في الشرق، سواء كان كبيراً أو صغيراً، وآخرها الجريمة المُروِّعة في القنصلية السعودية بحق الكاتب جمال الخاشقجي، وما مثّلته من تصدّعٍ دموي داخل الدوائر السعودية نفسها.
وبالمُجمَل، فنحن إزاء مشروعين كبيرين (للشرق الأوسط الأميركي) الذي يُراد له ومنه شطب العرب وإخراجهم من التاريخ، إمبراطورية إسطنبول من جهة، وأورشليم من جهة ثانية:

  1. مشروع كونفدرالية الولايات العثمانية مُجدّداً، بل أن خرائط المركز الجغرافي التركي لاتزال تحتفظ بالموصل وحلب كولايات تركية.
  2. ومن أجل هذه الغاية راحت جماعة الإسلام الأميركي الحاكم في تركيا تُغذّي النزعات الطائفية وتحويل العرب عموماً من مواطنين في دول مستقلّة إلى (ملّة سنّية) في ولايات عثمانية، تمتد من شرق المتوسط إلى شمال أفريقيا يرعاها السلطان العثماني الجديد في إسطنبول، وذلك عِلماً بأن المراكز الإقليمية التي تتنافس على تمثيل (أهل السنّة) ليست سنّية بالمعنى المُتعارَف عليه، فتركيا خليط من حنفية (لأغراض سياسية تُجيز خلافة من خارج قريش العربية) ومن تكايا وزوايا صوفية لا تعترف بها غالبية التيارات السنّية.
  3. وبالمثل فالسعودية ظاهرة وهّابية تكفّر المتصوّفة وتعتبر الأتراك كفّاراً.
  4. أيضاً، وكما جاء أكثر من مرّةٍ في ملاحظات برنار لويس ونوح فيلدمان (يهوديان أميركيان) وكذلك بريجنسكي، وغيرهم من مهندسي الانبعاث العثماني، فإن كونفدرالية الولايات العثمانية المنشودة ثلاثيّة الأضلاع: مركز عثماني، وشارع إخواني ومنبر إعلامي (قطري).
  5. المشروع الصهيوني، كونفدرالية الأراضي المُقدَّسة، وهو الإسم المُضلّل لمشروع (إسرائيل الكبرى) الذي يشبه المشروع العثماني، من حيث تمزيق الشرق العربي ودوله إلى كانتوناتٍ طائفيةٍ وجهوية.
  6. كما يستعير في الوقت نفسه شيئاً من (مملكة القدس اللاتينية) التي ظهرت خلال ما يُعرَف بالحروب الصليبية (الكاثوليكية ضدّ الأرثوذوكس والعرب عموماً)، ولكن ببناء كونفدرالية أورشليم الصهيونية (مركز إسرائيلي) ومحيط مُتناثِر من الكانتونات الطائفية والجهَوية، تتضمّن تصفية القضية الفلسطينية خارج فلسطين، بتحويل الفلسطينيين، كما الأردنيين والبقية إلى سكانٍ على جغرافيا بهوياتٍ مذهبيةٍ وليس إلى مواطنين على أرضٍ قوميةٍ وفي إطار دولةٍ ذات سيادة..
    وكما في المشروع العثماني، الذي وفّرت له أقلام الاستخبارات الأطلسية أدوات سياسية ومالية وإعلامية عربية (الشارع الإخواني وأوساط من الإعلام والمال الخليجي) فقد وفّرت الأقلام نفسها للمشروع الصهيوني أدوات مُماثِلة، كان أبرزها ما عُرِفَ بمشروع نيوم ومناخات التكالُب على التطبيع مع تل أبيب، وإطلاق مشاريع إقليمية من نمط سكك حديد تربط الخليج كله وشبه الجزيرة العربية مع الموانئ التي تحتلّها (إسرائيل) شرق المتوسّط.
    إلى ذلك، وبالرغم من كل ما حشدته ضدّ سوريا والعراق، دوائر وأقلام الاستخبارات الأطلسية واليهودية العالمية من مُرتزقة وخوَنة وإرهابيين تكفيريين ومن أموالٍ وفضائياتٍ ومنابر إعلامية ومناخات طائفية، ووضعتها في خدمة الانبعاث العثماني (وإسرائيل الكبرى)، إلا أن مشهد الشرق العربي والأوسط لايزال عصيّاً على السيناريوهات المذكورة، بل أن معسكر المقاومة والممانعة بكل عواصمه وقواه وتياراته بات رقماً صعباً وقادراً على عرقلة أية خرائط إقليمية مُضادَّة.
    وليس بلا معنى أن سوريا التي كانت الهدف الأهمّ والأكبر للسيناريوهات المذكورة وللتكامُل العثماني – الصهيوني، تُمسِك اليوم مع تحالفاتها الدولية والشعبية بزِمامِ المبادرة وتربط الأمن الوطني بالأمن الإقليمي والعربي.