قد يبدو طرحنا مسألة الأخلاق غريبا في هذه الأيام التي كادت فيها الإعتبارات والمقاييس المادية تطغى على كل شيء. لكننا نعتقد أن دور الأخلاق في كل دعوة تبغي نجاحاً، لا ينكره إلا كل متعصب أو جاهل بطبيعة الإنسان والحركات الإجتماعية. حتى الماديون المتطرفون نستطيع أن نكتشف في قاع تفكيرهم غائيات أخلاقية كالعدالة والسعادة. وإذا لم يكن طلب العدالة الاجتماعية والسعادة الإنسانية بعدها هما غاية البروليتاريين في حربهم ضد البرجوازيين، فأي معنى يظل للنضال؟ السعادة الإنسانية هي تاج القيم الأخلاقية ومحرك كل الثوريين إذا ثاروا والعاملين ما عملوا.
هذه الحقيقة، أعني حقيقة دور الأخلاق، الذي لا يُنكَر، أكده سعاده وشدّد على أهميته منذ بداية حركته القومية الإجتماعية، فهو يقول: “كلّ نظام يحتاج إلى الأخلاق، بل أنّ الأخلاق هي في صميم كل نظام يُمكن أن يُكتَب له أن يبقى”[1] ويقول أيضًا: “إنّ العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الإجتماعي للأمة، لمقاصدها ولأعمالها ولاتجاهها.[2] ماذا يعني هذا الكلام الأخير؟
إننا ميالون إلى الإعتقاد أن كلام سعاده ينطوي على مبدأ خطير هو في أساس نظرته إلى الأخلاق. ولكي نوضح قصدنا، نبدأ بعرضٍ موجز لرأي الدارسين الأكاديميين في أصناف العلوم، يُقسم الدارسين العلوم، عادة، إلى قسمين هما: علوم وضعية Objective، وعلوم معيارية normative، ويُدخلون تحت الباب الأول، علوم الفيزياء والكيمياء والحياة وما شابهها من العلوم التي تدرّس الأشياء والظواهر كما هي. في حين يُدخلون تحت الباب الثاني علوم الأخلاق والجمال والمنطق وما شابهها من العلوم التي تدرّس الأشياء والظواهر من حيث ما يجب أن تكون.
لكن النظرية الكلاسيكية خصوصاً والأكاديمية عموماً إذ تحسب الأخلاق علم ما يجب أن يكون، تشدّد في الواقع على مقولة الوجوب، فتقول مثلا: “يجب أن تكون صادقاً”، أو “يجب أن تفي بالوعد”، إلخ… في حين أن سعاده يشدّد في أخلاقه على مقولة وجوب الوجود أو مقولة الإيجاد. فإذا قال: “كل ما فينا هو للأمة حتى الدماء التي تجري في عروقنا..”، حوّل هو ورفقاؤه هذا المبدأ الأخلاقي الى حقيقة واقعة منظورة في عشرات الشهداء الذين قدمتهم الحركة السورية القومية الإجتماعية، والزعيم في مقدمة القافلة. فالصدق القومي الإجتماعي والصراحة القومية الإجتماعية والحب القومي الإجتماعي والبطولة القومية الإجتماعية والصمود والصبر الأعظميان القوميان الإجتماعيان والحرب غير اليائسة ضد جحافل الرجعية والإستعماريين والإمبرياليين، كل هذه، وغيرها من المناقب صارت كائنات حقيقية وليست أوهاماً. لقد تحوّلت إلى عادات عقلية وملكات جسدية فصارت معنىً أساسياً من معاني الإنسان الجديد.
لذلك فإنّ الأخلاق، عند سعاده، هي سلاح للتغيير: لتحويل الممكن إلى واقع، والوجود بالقوة إلى وجود بالفعل والمثال الأعلى إلى حقيقة تدبّ على قدمين، والروحي إلى مادي ملموس. فنسبة الأخلاق القومية الإجتماعية إلى الخلق creativity ليست مجرد جناس بديعي ناشئ عن مشابهة الأحرف، إنما الأخلاق في مفهوم سعاده هي الخلق النضالي. بالأخلاق المؤمنة المصارعة قضى الإله مردوك في سوريه القديمة على طيامات الفوضى وبسَط الأرض ورفع السماء وزيّن الكون بالكواكب والنجوم فصار منزلاً جميلاً للعالمين. وبفضل الأخلاق المُصارِعَة المؤمنة انتصر هاني بعل على الرومان، وعندما تخلخلت أخلاق قرطاجه انكسرت جيوشها واندثر عمرانها. وبفضل الأخلاق المُصارِعة المؤمنة حوَّلَ سعاده روح الأمة الخافق في تعاليمه إلى جسد حقيقي ملموس هو الحزب السوري القومي الإجتماعي. لقد خلق سعاده من مجموع مادي مُهمَل من البشر قوة حياة عظيمة فاعلة في نهوض الأمة من جديد ظاهرة في الحركة السورية القومية الإجتماعية التي أنشأ. لقد حَوّلَ ما كان عدماً أو ظاهر عدم إلى وجود حيّ هو الأمة السورية الناهضة.
الأخلاق عند سعاده، إذن، هي ذلك الجهاز الروحي، المكوّن من منظومة من القيم الوجودية (أعني المتعلقة بالوجود وتحسين الوجود)، والذي مهمته أن يحوّل المثل العليا إلى وقائع ويوصل النظرية بالعملية، ويجعل الغايات الخافقة في ضمير المستقبل كائنات حيّة تتحرك فينا وبيننا على أرض الحاضر.
وإذا كان جوهر الأخلاق القومية الإجتماعية هو وجوب الوجود أو الإيجاد، فهذا يعني أن المقولة الرئيسية للمناقب عند سعاده هي مقولة الصراع. والحق يقال أن مقولة الصراع هي رأس المناقب في الحركات الوجودية الشعبية المعروفة في التاريخ ولكنها اتخذت عند كل جماعة صورة مختلفة. فهي صراع وجهاد في سبيل الله عند المؤمنين من المحمديين والمسيحيين، وهي صراع لفوز البروليتاريا عند الماركسيين، لكنها عند سعاده صراع لغاية الأمة. والأمثلة التاريخية التي ضربناها فيما تقدّم، عن مردوك وهاني بعل ولينين وماو وسعاده وغيرهم توضح ما نحن بصدده.
إنّ الصراع، صراعاً مؤمناً بأهمية النهضة القومية الإجتماعية، الصراع لغاية سيادة الشعب وتقدم الشعب في مضمار الحياة الكريمة، هو بنظرنا جوهر المناقب في الحركة السورية القومية الإجتماعية، الذي بدونه تتحول إلى دائرة العدم. يقول سعاده:
لذلك نحن حركة صراع، لذلك نحن حركة قتال، حركة صراع بالمبادئ التي نحمل وحركة قتال بالدماء الحارة التي تجري في عروقنا والتي ستحوّل أرض هذا الوطن إلى أرض الزوبعة الحمراء المنطلقة لتحطم كل نذالة وقبح ولتصل بهذا الشعب إلى المجد”. ويضيف قائلا:” لو لم نكن حركة صراع لما كنّا حركة على الاطلاق، لا تكون الحياة بدون صراع.[3]
اما الأضلاع الأخرى في المناقب القومية الإجتماعية، |فنعدد منها البطولة المؤمنة المؤيّدة بصحة العقيدة. بدون هذه المنقبة، يتحول الصراع إلى باطل وكذب. وقد أوضح سعاده هذه الحقيقة في رسالته الثانية من الإرجنتين الموجهة إلى جميع القوميين الإجتماعيين:
إنّ حالة أمتنا ووطننا الحاضرة لا تزال هي عينها الحالة التي تستدعي التوجّه بالكلية إلى مزية أولية أساسية من مزايا حزبكم ونهضتكم العظيمة، أعني مزية البطولة المؤمنة. فإنّ أزمنةً مليئةً بالصعاب والمحن، تأتي على الأمم الحيّة، فلا يكون لها إنقاذ منها إلّا بالبطولة المؤمنة المؤيّدة بصحة العقيدة. فإذا تركت أمةٌ ما اعتماد البطولة في الفصل في مصيرها، قررته الحوادث الجارية والإرادات الغريبة[4]
الأخلاق القومية الإجتماعية إذاً هي أخلاق صراع وبطولة مؤمنة بنهضة الأمة وفلاحها. كل أخلاق غير هذه إنما هي عيش ذليل ووجود هين تلعب فيه رياح الرجعة والإرادات الأجنبية.
بعد منقبة البطولة المؤمنة المؤيّدة بصحة العقيدة، نذكر مَنقَبَتَي الاعتماد على الذات والثقة بالنفس في الصراع القومي الإجتماعي. إن عهد الإتكالية والإرتماء في الأحضان الأجنبية يجب أن يزول وأن العقلية التي تقول، كلما تعرض الوطن لمصاب: ” إن الحل في الخارج” هي عقلية لا أخلاقية خائنة للشعب ويجب أن تُجتثّ إجتثاثاً من الجذور.
يقول سعاده:
“إن الأمم في تكاتفها وضمّ شتاتها، وما كانت القوة الروحية الا الدعامة لهذا التكاتف، لأن هذه القوة تعطي إيماناً بالحياة، وكل شعب يخسر إيمانه بذاته كان من الخاسرين.
ومن المناقب أيضا، صمود الشعب على الشدائد وصبره على النوائب وإيمانه الذي لا يتزعزع بنصر إرادته في المعركة التي يخوضها ضد الإرادات الأجنبية وقوى الرجعة ومفاسد الإنحطاط. هذه هي مناقب القوميين الإجتماعيين التي بها صنعوا تاريخ أمتهم الحديث وصاروا ما هم عليه من نمو رغم التشرد وقوة رغم الإضطهاد ورسوخاً في العقيدة رغم السجون وثباتٌ على غاية الأمة رغم القتل. يقول سعاده:
لو قضوا على مئات منّا لما تمكّنوا من القضاء على الحقيقة التي تخلد بها نفوسنا، ولما تمكّنوا من القضاء على بقية منّا تقيم الحق وتسحق الباطل.[5]
بهذا الإيمان أمكن قيام النهضة وبهذه المناقب السامية تحمّلتْ صفوف النهضة كل صنوف الآلام والأذى ولم تتراجع بل ظلت متقدمة على طريق الحياة صامدة شامخة. هذه هي أخلاق التقدم الحقيقي للأمة، أخلاق الإيمان والصبر والفداء التي بدونها تظل الحرية وهماً من الأوهام ويبقى الحق طيفاً في الأذهان والعز خيالاً والنهوض سقطةً.
إن المقياس المناقبي لكل الأعمال والحركات عند سعاده هو مبدأ مصلحة الأمة المُثبّت في المبدأ الأساسي الثامن:”مصلحة الأمة فوق كل مصلحة”. فكل عمل يناهض مصلحة الأمة أو يضرّ بقضايا الشعب هو عمل باطل ليس مادياً فقط بل هو باطل أخلاقيا أيضاً.
إن هذا المقياس المناقبي، أعني مصلحة الأمة، هو محكّ كل النشاطات، إقتصادية كانت أو سياسية أو فكرية أو غير هذه.
نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية: إن العقلية الأخلاقية الجديدة هي عقلية العمل بالتعاليم القومية الإجتماعية وجعلها تقاليد حياة الشعب الجديدة. والمناقب القومية الإجتماعية بالتحليل الأخير هي مناقب صراع مؤمن بقضية الأمة وحقها في الحياة الجيدة، واثقٌ من نفسه، معتمِدٌ على ذاته، ثابت الإرادة، ماضي العزيمة، معطاءٌ صامد، عاملٌ حتى النصر.
[1] أنطون سعادة، المحاضرات العشر، ص 163.
[2] المرجع ذاته، ص 164.
[3] النظام الجديد، الحلقة السابعة.
[4] المحاضرات العشر، الطبعة السادسة، ص 16-17.
[5] النظام الجديد، الحلقة 15، ص 48.
بقلم: الأمين د. حيدر حاج اسماعيل