في تاريخ أمتنا يكمن “بعل” إله الشباب والقوة والإنتصار. هناك، قرب المينا البيضاء في اللاذقية، إكتشفنا أسطورة منازلته التنين الذي أخاف الإنسانية.
وفي 24 أيلول 1982، “بعلنا” الجديد الساكن بجسد خالد علوان انحدر ليواجه تنين أخبث، عديد الرؤوس، كثير البراثن والمخالب وحاد الأنياب.
تنين عظيم جدًا.
تنين مزدوج مشترك من فساد الذل في أجيال عديدة مرّت في هذه الأمة، ومن إرادات أجنبية، تناسبت في سهولنا وأوديتنا، وحاولت الالتفاف علينا لخنقنا، حاولت القضاء على ما في نفوسنا من شرف، لتمنعنا من ذروة المجد.
هناك، على رصيف مقهى الويمبي، سحق “ميشال” -الإسم الحركي لخالد، والرفيق عارف البدوي، و آمر مجموعتهم “م.ب” أو “كيسنجر”، ضابطًا، وثلاث جنود صهاينة، ليعلنوا أن بيروت محرمّة عليهم. فكان إنسحابهم أذلاء مهزومين في 29 أيلول.
إذًا، لم يصور مشهد فيلم “ناجي العلي” الذي يتأرجح في ذاكرتنا كلما تذكرنا عملية الويمبي ، ما حدث بكثير من الإتقان، ربما لحماية الرفقاء في ذلك الوقت. إلا أن على التاريخ أن يذكرهم ويذكر ما فعلوا، من أجلنا لا من أجلهم….
ومن أفضل ممن كان هناك، الرفيق الشهيد خالد عثمان علوان، المولود سنة 1962 ، والمنتمي إلى الحزب عام 1978، أن يروي حقيقة ما حصل معه هو ورفقاؤه المجاهدون، ببضعة أسطر كتبها بملء إرادته “وهو يشرب السيڤين أب ” -على حد قوله- بعد قيامه بالعملية؟
تمركزت مجموعة الشهيد خالد علوان بذلك اليوم في صالة مونتي كارلو حاليًا منتظرة أمر قيادتها للتحرك.
حتى قطع إنتظارهم قدوم معلومات جلبها عنصران من مجموعة الإستطلاع تفيد أن أربعة إسرائيليين يجلسون في المدخل اليساري لمقهى”الويمبي” -متجر converse حاليًا- يشربون القهوة والبيرة ومعهم آلية مزودة برشاش mag.
إتفق الرفقاء الثلاث على أن يقوم الرفيق خالد علوان والرفيق كيسنجر بإطلاق النار على المجموعة الإسرائيلية بينما يتولى الرفيق عارف البدوي عملية إخلائهم بالسيارة بعد تنفيذ العمليّة.
تأكد الرفيق خالد من أن رشاش ال mag مؤمّن بينما تقدم الرفيق “كيسنجر” نحو المجموعة الإسرائيلية وأطلق النار عليها ليصيب الضابط الإسرائيلي في وجهه وصدره مع جنديين كانا يجلسان معه. في هذا الوقت، كان “دراج” لبناني متمركز قرب مقهى “المودكا” -على يمين “الويمبي”، بنك بيبلوس حاليًا- قد بدأ بإطلاق النار على الرفيق كيسنجر الذي لم يستطع رد النيران لعطل في مسدسه فتدخل الرفيق خالد ليحمي كيسنجر من الدراج ويردي جنديًّا إسرائيليًّا رابعًا كان قد خرج من داخل المقهى.
بعد تنفيذ العمليّة، توجه الرفيق كيسنجر بإتجاه سيارة الرفيق عارف البدوي وانسحب نحو منزل عمه في شارع بئر العبد في الضاحية الجنوبية، ليسمع بالراديو خبر موت الجنود الأربعة وسحبهم نحو الحمام العسكري ونقلهم بالطوافات إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. بينما اختلط الرفيق خالد مع النّاس المذعورين ليتوجه نحو مستشفى الجامعة الأمريكية حيث تواجد أحد قادة العمل العسكري الجرحى وأطلعه على تفاصيل العمليّة.
المفارقة هنا ، أن شارع الحمرا الذي قام بتأسيسه مجموعة من “الليبراليين” اللبنانيين على نمط شارع “المثقفين” في باريس- الشانزليزيه ChampsÉlysées- بنمط مقاهيه على طول جانبي الطريق، هو نفسه الشارع الذي منع الأمن العام اللبناني عام 1967 أن تعرض فيه مسرحيّة “مجدلون” لكاتبها هنري حماتي وبطلتها نضال الأشقر المتنميان إلى الحزب السوري الاجتماعي، واللذان حاولا من خلالها تجسيد بداية خيار المقاومة الشعبيّة ضد إسرائيل للرد على نكسة 1967. وكفعل تحدّي لمن منعهم، عرضوا مسرحيّتهم في العراء أمام مقهى “هورس شو”. وهو نفسه الشارع الذي تحوّل فيها “مقهى الويمبي” أحد مفرزات هيمنة عالم الشمال والدّول الإستعماريّة على عالم الجنوب والمستعمرات السّابقة، إلى “ذكرى” مرتبطة بالمقاومة كفعل- ورد فعل، ومعادلة ردع.
والمفارقة أيضًا، أن نقطة تجمع “المثقفين العالميين” في بيروت، ممن “مارسوا ثقافة الحياة” في ذلك الوقت وتفرجوا على الاحتلال، كانت أيضًا موضع مسدّس خالد علوان ليكون أصدق إنباء عن الحق والخير والجمال.
القهوة، المثقفون، جثث الاحتلال، والتحدي… هي تفاصيل على رصيف بيروت وضعها القوميون في حجرة نار قرأوا فيها: أن هكذا نُجيد العرض، وهكذا نرتشفُ العزّ، طلقة، طلقة…