لاشك في أن إقرار الموازنة العامة حاجة ملّحة لانتظام المالية العامة في لبنان، ويحمل في طيّاته إشارات مؤاتية للأسواق والمستثمرين ويساهم في تعزيز عامل ثقة العالم الخارجي بالاقتصاد الوطني، بعيداً عن الإنفاق على قاعدة الاثني عشرية التي أوجدت فوضى مالية ملحوظة منذ العام 2006، كما وأن إعدادها للمرة الأولى منذ أعوام ضمن موعدها الدستوري يشكّل في حدّ ذاته تطوراً مهماً ومطلباً اقتصادياً. إلا أنه يجدر الذكر أن الموازنة العامة في المطلق ليست فقط وسيلة لحصر احتياجات الحكومة وإيراداتها، بل لها وظائف جوهرية أخرى وبالأخص استخدامها كوسيلة لضبط السياسة المالية للبلاد ولتحقيق أهداف الدولة وتنفيذ سياستها الاقتصادية. وتكمن أهمية الموازنة العامة في دورها كأداة رئيسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويشكل إعدادها رافداً أساسياً في الجهد التنموي وفي تلمّس احتياجات الدولة ومواطنيها. في هذا السياق، إننا نرى أن إقرار الموازنة العامة بحدّ ذاته ليس كافٍ إذ يجب أن يترافق مع تقدّم مرجو على مسار الاصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها من الاصلاحات الاقتصادية إلى المالية والإدارية منها، والتي من شأنها أن تعزّز النمو الاقتصادي وتحفّز كل من الإنتاجية والعجلة الاقتصادية وتحدّ بالتالي من الاختلالات القائمة على صعيد القطاعات الاقتصادية بشكل عام.
في الواقع، عند الغوص في موازنة العام 2024، يبتيّن لنا بعجزها البالغ 41.7 تريليون ليرة، أنها موازنة بعيدة كل البعد، من حيث الشكل والمضمون، عن موازنة بلد على شفير الإفلاس، وكأن من صاغ المشروع تناسى تماماً حدّة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الواقع المعيشي المؤلم، لا بل تتضمّن هذه الموازنة عدد كبير من البنود الضريبية التي من شأنها أن ترفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وبالتالي المزيد من إفقار الناس في ظلّ حرمانهم من أي شبكة أمان اجتماعي ومن دون الاهتمام بتأمين الاحتياجات الرئيسية اللازمة لأبسط مقومات المعيشة.
أولاً، إن الموازنات العامة التي دأبت وزارة المال على إعدادها في الأعوام الأخيرة وتحديداً موازنتي العام 2023 و2024، تفتقر لأي خطة أو رؤية اقتصادية، أو حتى فذلكة تحدّد أبرز المؤشرات الماكرو اقتصادية كالمعدل الوسطي لسعر الصرف التي احتسبت على أساسه الإيرادات والنفقات، حجم الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي ونسب التضخم المتوقعة خلال العام 2024. والأخطر هو غياب الأرقام الفعلية لعام 2022 أو حتى الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023، إذ اكتفت وزارة المال بذكر الايرادات المحصلة عن العام 2021 على سبيل المقارنة وهذا أمر بغاية الخطورة لأن تقييم الضرائب والإيرادات المقررة على سبيل المثال عن العام 2024 يجب أن يتم بناءً على ما حصل في العام السابق وليس عن العام 2021 حين كان البلد خارج من إنفجار المرفأ وكان التضخم ليس بهذا الحجم وسعر الدولار كان يقارب الـ 24 ألف.
ثانياً، إن مشروع موازنة 2024، هو مشروع الضرائب المعدلة والمستحدثة بامتياز، دون أي مراعاة لمبدأ العدالة الضريبة والمساواة بين المكلّفين، إذ تلحظ الموازنة العام ارتفاعاً في الإيرادات العامة من 148 تريليون ليرة في موازنة 2023 إلى 259 تريليون ليرة في العام 2024، نتيجة ارتفاع الإيرادات الضريبية بحوالي الضعف تقريباً. عليه، فإن موازنة 2024 تفتح الطريق أمام دولرة الضرائب والرسوم في سابقة هي الأولى من نوعها وتحصيلها بالدولار بعدما كانت الليرة هي العملة الرسمية الوحيدة في غالبية تعاملات الدولة مع المكلّفين بالضريبة، كالحصص والأرباح التي تعود للدولة اللبنانية من استخراج النفط ومشتقاته وبيعه، وإيرادات ألعاب الكازينو بالعملة الأجنبية، وحصة الدولة من الشراكات مع القطاع الخاصة، والضريبة المتوجّبة على إيرادات رؤوس الأموال المنقولة الأجنبية، والضرائب والرسوم المتوجّبة على الشركات صاحبة الحقوق البترولية والشركات صاحبة الحقوق البترولية المشغّلة، والرسوم الجمركية، ورسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد، والرسوم التي تستوفيها مؤسسة كهرباء لبنان ورسوم المطارات، وغيرها من الرسوم الأخرى. ناهيك عن رفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 12% لتطال كافة اللبنانيين من دون استثناء، بمعيشتهم واستهلاكهم وحياتهم اليومية، في حين تم استحداث ضرائب ورسوم جديدة على مجموعة كبيرة من الخدمات والطلبات، لاسيما منها كل ما يصدر عن وزارة التربية والتعليم العالي وغيرها من الرسوم المقطوع على كل دعاوى التفريق والطلاق والخلع وإثبات النسب ونفيه، وإثبات الزواج وحصر الإرث وفرض رسوم تتراوح بين 1 بالألف و4 بالألف على سلع مستوردة تتجاوز 1500 سلعة، منها نعوش الموتى ولحوم وزيوت وخضار ومواد غذائية وشوكولا والهدايا والمستوردات الشخصية وحفاضات الأطفال وكافة أنواع الأقلام والقرطاسية وأجهزة علاجية وأجهزة تنفس ومستحضرات صيدلانية وأدوية وغيرها. أما الأخطر فهو فرض رسم جديد بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة مقابل تسريع إنجاز المعاملات على أن يتمّ توزيع إيراداته بين موظفي المديريات وخزينة الدولة. وهي محاولة علنية لتشريع الرشاوي في الإدارات العامة، ما يفتح الباب أمام الاستنسابية في التعاطي مع معاملات المواطنين، وكأنهم بذلك يحاولون تشتيت أنظار موظفي القطاع عن تصحيح الأجور الغائب كلياً عن مشروع الموازنة.
ثالثاً، اعتمدت الموازنة العامة بشكل أساسي على الزيادات الضريبية، وكأن العجلة الاقتصادية بأحسن حال والاقتصاد الوطني في نمو إيجابي جيد، في وقت قد تستمر معظم مؤسسات الدولة بالإقفال في ظلّ عدم تصحيح أجور موظفي القطاع العام، وبالتالي فإن كل هذه الإيرادات الضريبية قد لا تبدو واقعية أو يمكن تحصيلها خاصةً في حال لم تتفعّل العجلة الاقتصادية كما يجب، وفي حال افتقرت مؤسسات الدولة إلى العمل المنتظم. أضف إلى ذلك، لم يرد في المشروع أي بند لإلغاء الإعفاءات الاستثنائية التي تتيحها القوانين للمسؤولين السياسيين وموظفي الفئات الأولى والجمعيات الدينية والاجتماعية، كما وأنها لم تبحث عن مصادر تمويل جديدة خارج إطار سحب المزيد من الضرائب من جيب المواطنين والمؤسسات الفاعلة، مثل إعادة هيكلة القطاع العام المتخم وغير المنتج، تفعيل جباية الكهرباء، مكافحة التهرب الضريبي والجمركي، أو حتى التطرّق إلى ملف الأملاك البحرية وغيرها من المصادر الأخرى التي يمكن أن تدرّ إيرادات فعلية لا ترهق المواطن بشكل عام.
رابعاً، لا تلحظ الموازنة العامة نفقات استثمارية هامة وهي اكتفت فقط بتحديد مبلغ 15 تريليون ليرة (أو 176 مليون دولار) من أصل 300 تريليون ليرة (أو 3.4 مليار دولار) كنفقات اجمالية، ما يتعارض مع إمكانية وضع خطة تعافٍ اقتصادي مبنية على تعزيز الاستثمار في المجال الانتاجي، لاسيما وأن التحدي المحوري في سبيل تحفيز النمو الخاص يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة المرتبط بتحسن بيئة الأعمال من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال، والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.
خامساً، تفتقر هذه الموازنة إلى الإنقاق الاجتماعي والصحي والتربوي مع تخصيص اعتمادات هزيلة لوزارات الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية. ويأتي ذلك في وقت يتداعى فيه نظام الرعاية الصحية اللبناني وسط أزمة اقتصادية طاحنة أدت لنزوح جماعي لآلاف الأطباء والممرضين وإجبار مستشفيات خاصة على إغلاق بعض أقسامها بما شكل مزيداً من الضغوط على القطاع الصحي الحكومي الذي يتعرّض بالفعل لما يفوق طاقته، بالتوازي مع انهيار مماثل للنظام التربوي في المؤسسات الحكومية. فالموازنة خصّصت على سبيل المثال حوالي 13.1 تريليون ليرة لوزارة التربية (أي أقل من 150 مليون دولار) وحوالي 31.3 تريليون ليرة لوزارة الصحة (أي أقل من 360 مليون دولار) وحوالي 5.4 تريليون ليرة (حوالي 60 مليون دولار)، في حين أنها خصّصت 22 تريليون ليرة لرئاسة مجلس الوزراء.