منصة محدّثة تمهّد الطريق نحو تحرير تدريجي لسعر الصرف

بعد أكثر من عامين، ها هي منصة صيرفة تشدّ رحالها وترحل عنّا لتطلّ من جديد بحلّة محدّثة تتناسب مع التغييرات الطارئة التي أصابت مصرف لبنان مع رحيل حاكمه رياض سلامة واستلام النائب الأول وسيم منصوري الحاكمية بالإنابة، بحيث من المرتقب إطلاقها خلال الأشهر القليلة المقبلة فور استكمال كافة الإجراءات اللوجستية والتدريبات اللازمة. في التفاصيل، من الواضح بأن منصة بلومبرغ الجديدة تعدّ نسخة أكثر تحديثاً عن منصة صيرفة، كونها نسخة أكثر شمولية لناحية أنها متاحة أمام الجميع للتداول بالليرة والدولار والعملات وغيرها من الأدوات المالية، وهي أكثر شفافية إذ يمكن لمستخدمي بلومبرغ إجراء التداولات ومراقبة بيانات السوق وبالتالي معرفة أحجام التداول ومصدر الأموال المتداولة على خلاف منصة صيرفة، كما وأنها أكثر مراقبة كونها تعمل تحت أنظار مراقبين دوليين لا محليين، ما يمنع بالتالي الاستنسابية التي كانت سائدة مع منصة صيرفة، ناهيك عن قدرتها على مكافحة عمليات تبييض الأموال عبر تقليص حجم اقتصاد الكاش والقضاء على مشهد حقائب الليرات المكدسة التي شهدتها المصارف في السنوات الأخيرة لشراء دولار المصرف المركزي عبر منصة صيرفة، على اعتبار أنه سيتمّ ربط المصارف والحسابات المصرفية وعمليات الصرف بواسطة هذه الغرفة الالكترونية الجديدة. أضف إلى ذلك، فإن مصرف لبنان سيلعب دوره الاعتيادي كبائع وشاري عبر إخضاع الليرة والدولار لعمليات العرض والطلب بحيث أنه سيتدخل عند الحاجة فقط وذلك لضبط السوق في حال شهدت تقلبية آنية تهز الاستقرار النقدي، دون المساس بالاحتياطي الإلزامي.
أما في المضمون، فإن الهدف المبطّن لمنصة بلومبرغ يكمن في التمهيد لتحرير تدريجي في سعر الصرف وتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة، ما بين سعر منصة صيرفة السابق وسعر السوق السوداء وسعر الصرف الرسمي وسعر الصرف المصرفي، أكثر مما هو التعويل عليها كأداة لضبط سعر الصرف. إذ أنه في الواقع، وفي حال بقيت الهوامش كما هي بين سعر المنصة وسعر السوق السوداء، وهو أمر متوقع في المرحلة الأولى خاصة في ظل الفراغ الرئاسي والإصلاحي وانقضاء موسم الصيف، فإن منصة بلومبرغ قد تشهد بطبيعة الحال طلباً على الدولار يفوق العرض، ما يعني حركة اتجاه واحدة أي عمليات شراء للدولار فقط، كما كان الحال مع منصة صيرفة، وبالتالي فإن المصارف ومصرف لبنان سيقومون بضخ الدولارات عبر المنصة لبيعها لمستخدمي المنصة، ما يعني بأننا قد نكون أمام عمليات شراء للدولار من السوق وإعادة ضخها عبر المنصة كما هو الحال تماماً مع منصة صيرفة، وذلك لتوفير استقرار نقدي مصطنع قدر المستطاع، وهو استقرار ممكن تأمينه في المدى المنظور في ظلّ الكتلة النقدية بالدولار المتوافرة في السوق بعد موسم سياحي ناشط خلال فترة الصيف ناهيك عن قرار مصرف لبنان الواضح بضرب أي عمليات مضاربة على الليرة. على أن يتبع ذلك في المرحلة الثانية وبشكل تدريجي بحسب التوقعات، عملية توحيد لأسعار سعر الصرف ليعكس سعر صرف منصة بلومبرغ السعر الحقيقي للسوق، ولكن في ظلّ دولرة شبه شاملة للدولار وغياب الليرة اللبنانية عن عمليات تسعير السلع والتداول بها في السوق، وغياب الإصلاحات الهيكلية المنشودة، وهو ما أكّدته فعلياً موازنة 2024 التي كرّست الدولرة في سلة ضرائبها ورسومها، فإن خطوة تحرير سعر الصرف في هذه الحالة قد يكون لها تداعيات قاسية على سعر الصرف، لاسيما في ظلّ قدرة مصرف لبنان المحدودة على المناورة والتدخل للجم التفلت المحتمل في سعر الصرف، وعدم قدرته على خلق توازن بين العرض الشحيح والطلب الكبير على الدولار، في حين قد يقتصر تدخله فقط على تغطية رواتب القطاع العام وعمليات بيع الدولار للدولة اللبنانية، ما يعيدنا إلى المربع الأول، أي فشل المنصة الجديدة في تحقيق أهدافها المرجوة، كما فشلت منصة صيرفة سابقاً، دون أن ننسى إمكانية عودة المضاربات المفتعلة على الليرة اللبنانية خاصةً في حال بقيت المراوحة على الصعيد السياسي والإصلاحي، ما يعني مخاطر محتملة قد ينجم عنها تفلّت جديد في سعر الصرف.
في المختصر، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الخطط تبقى معالجات موضعية وترقيعية لتمرير الوقت وذلك لحين الشروع في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة وفق خطة إنقاذ اقتصادية لمعالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية البنيوية، وإلا فإن أي معالجات موضعية كالتي تعوّدنا عليها خلال السنوات الأخيرة من شأنها أن تلجم الأزمة تفادياً للارتطام الكبير، خاصةً إذا ما بقيت أركان الدولة ومؤسساتها في شللها وانحلالها دون أي حسّ بالمسؤولية أو إدراك لمدى فداحة الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ نهاية العام 2019.