مساء كل سبت كنا ننتظر قدوم أبي من المنفذية، وما أن نراه يدخل باحة المنزل حتى نتسابق انا واخوتي اليه لا للسلام عليه وأخذ رضاه، فالغانم من يصل أولاً ليأخذ منه مجلة “البناء”، وكما يقال “مين سبق شم الحلق”.
أول الواصلين يصبح الحاكم بأمره فله حرية تصفح ما يشاء منها. وكم دارت معارك طاحنة لحجز الدور الثاني! كل هذا على وقع صراخ والدتي وهي تقول “ما حدا رح يجننكن الا الحزب” وهي تعلم في قرارة نفسها بأن الحزب هو قمة العقل والمنطق والخلاص.
بالنسبة إلي، في ذلك السن، لم أكن أهتم بالسياسة الداخلية ولا الخارجية ولم أكن أرصد تحركات الموفدين السياسين ولم اكن لأهتم بالدراسات عن “المدرحية”.
جلّ ما كنت أهتم به واتصفحه هي الصور الموجودة وخاصة صور الزعيم وكوكبة الشهداء وسيرة الرفقاء المناضلين بالاضافة الى صور الاحتفالات الحزبية في الاول من اذار أو 16 تشرين أو 8 تموز وكنت أبحث أولاً عن احتفال منفذية الهرمل لأعدد اسماء الرفقاء الذين يظهرون في الصورة. وكم كنت أمنّي النفس بأن أجد صورتي مع فرقة الأشبال ونحن ننشد الاناشيد الحزبية. لكن عبثاً كنت أحاول وكأن مؤامرة خفية تستهدف إقصائي عن الصور.
ثم أنتقل الى الزاوية الرياضية لأحظى بصورة لمشاهير كرة القدم…
كانت “البناء” مليئة بالأخبار العامة والنشاطات الحزبية وغنية بالدراسات والشروح في العقيدة بالإضافة إلى المعلومات الثقافية والتاريخية العامة من أدب وفنون وعادات الشعوب وتقاليدها، بالإضافة الى أنها مرصّعة بكلمات للزعيم سعادة في أعلى كل صفحة.
كنت أشعر بلهفة وحب لمجلة “البناء” لسببين:
الأول لأن اسمها إقترن بإسم أختي الصغيرة والتي توفيت بعمر الثمانية أشهر كان أبي يوم ولادتها قد اسماها ” ناء “.
والثاني لأن مجلة “البناء” كانت تشبهنا وتعبر عن حقيقتنا.
بعد ما انحرفت “البناء” عن مسارها ولأن لا بد للصباح أن يأتي بعد ليل طويل، ولأن قيم الحق والخير والجمال متأصلة في نهضتنا، ها هي صباح الخير -البناء بإشراقة جديدة صدرت لتعبر عن حقيقتنا ومعتقدنا مع فارق وحيد الأن بأن أبنائي لن ينتظروا عودتي بها كما كنت انتظر ابي لأن التكنولوجيا قد فعلت فعلها.
حيدر عاصي