يُقال أنَّ للمُدُنِ ذاكرةٌ شبيهةٌ بذاكرةِ النّاس، لكنّها أكثر دِقَةً.
إلّا بيروت، مسكينةٌ بيروت،
فكيف تتسِعُ ذاكرتَها لشيءٍ آخر بعد هذا النهار
وكيف يخفقُ قلبها لِخليلٍ مِن جديد، وهي حتى اليوم لم تنهِ أربعينَ عِدَّتها
ما زالت تغسلُ فستانها الأبيض عند حلولِ أيلول، وميعادها طيورُ الزرعِ المهاجرة.
أربَعٌ وعشرونَ يوماً تتجهَّزُ لِلحَدَثِ الأكبَر
تزدادُ شُعاعاً كُلَّما اقتربَتِ الساعَة مِنَ العَصرِ، تنثُرُ ضفائِرَها فَرحا على باقي المُدُنِ مُغرِقَةً البَحرَ حتّى الإسكندَرونة.
هو يومها الكبير
وهل هناكَ ما هو أكبَرُ مِنَ الحريّةِ،
تلكَ الحمراءُ المُضَرَّجة بأكفٍّ وطلقات
مَهراً قوامهُ رصاصاتٍ صُنعت لتكونَ تاريخا ومجداً وحياةً غيرُ زائلة.
مهراً قوامهُ تِنّينٌ أرداهُ الإيمانُ جيفَةً على رصيفٍ يَلفظُ الجِيَفَ والجُثَثِ الهامدة.
الله يا بيروت
يا أجمل النساءِ وأكثرهُنَّ حُريّةً، وأكثرهنَّ شرهاً للحياة،
يا درَّةَ المُستقبلِ على عُنُقٍ تملَّكَهُ الموتُ مِن كلِّ الجوانِبِ فحَفَرَت زواياكِ المُسَنَّنةِ ثُقباً في كَبِدِ الظلامِ يُطلُّ على الغَد.
ألله يا بيروت
كيفَ يتغيَّرُ الوَحيُ في سمائكِ حينَما يُقبِلُ موسمُ العِشقِ، ويأتي خالِد متمنطقاً بألفِ أسطورةِ ومئةِ إله،
يرمي بهم على قدميكِ نبيذاً مُعَتَّقاً بارِداً.
ألهذا يا بيروتُ سارَ العِشْقُ في أورِدَةِ المارَّةِ والمارقين؟
ألهذا سَكَنَتِ الضِّحكات في الحَفافي ونُقِشَت على حجارَةِ المقاهي ووُجوهِ الباعَةِ والدكاكين وأعمدَةِ الإنارَة؟
كانَ يوماً يُشبِهُ سِفْرَ البدايةِ
كأنَّ صوتَ الرَّصاصِ على ذلك الرّصيفِ كانَ ارتِطامَ المَوجِ بحجارَةِ القلعةِ البحريّةِ في صيدون، تَزُفُّ الحُريَّةَ مَدّاً وجَزراً، تُزَغرِدُ لِعَريسِ الصباح
هو خالِدُ الأسرارِ والأفكارِ والعطرِ القديمِ
هو ياسَمينٌ على غارٍ على رَملٍ وصُبّار
هو كلُّ ما سيأتي بَعدَ جَرفِ السَّيلِ، حتّى وإنْ غُدِرتْ عَينَيهِ مِن عَينَيهْ.
هو ابتِساماتٍ يافعَةٍ على أدراجِ الكُليّةِ السوريّةِ، مُختَبئاً بِكُتُبِ الطُّلابِ، ولافِتاتِ المَتاجِر.
هو يا بيروتُ أنتِ،
هو كلّنا وغَدُنا ووعدُنا الدائمُ بالفرح.