أظهرت الموجات الأخيرة من الاعتداءات الصهيونية على مخيم جنين ونابلس وغيرهما من المناطق الفلسطينية المحتلة، هشاشة الخطاب السياسي للمراهنين والمتورطين في أوهام التسوية والسلام مع الكيان الصهيوني، كما أظهرت منظومة الأكاذيب التي قامت عليها دولة العدو اليهودي على أرض فلسطين العربية، وصار ممكنا استشراف حتمية زوالها بسقوط هذه الاكاذيب التي تتنافى مع حقائق العصر من جهة ومع وجود أمة حية تملك من أمكانيات المستقبل أضعاف ما تملكه دولة الأكاذيب الصهيونية.
الكذبة الأولى، هي كذبة الدولة الديمقراطية فلم تتأسس “إسرائيل” على أسس ديمقراطية برجوازية مدنية، بل وفق ديمقراطية أخرى، هي الديمقراطية الجرمانية وما تستدعيه من عرقية شديدة لتسويغ علاقة السيد “الأنا” اليهودي بالعبد “الآخر” العربي.
فالدولة هنا ليست مؤسسة قائمة على الحق، بل مؤسسة قائمة على تصور أيدلوجي مرتكز على العرقية.
والفرد ليس أساس الدولة وموضوع الحرية فيها بل الجماعة… والحرية والديمقراطية شرط داخلي لإنتاج فاشية خارجية وليست نموذجا “إسرائيليا” لديموقراطية فريدة في الشرق الأوسط بل إن حزب العمل وما يسمى باليسار “الإسرائيلي” يتحدثون كالخامات عن شعب الله المختار مقابل الغوييم “الغرباء” الذين بالكاد يستحقون الحياة، وهو ما انعكس في التشريعات الأولى كما صاغها هذا “اليسار” وأبرزها قانون الانتخاب الذي تعامل مع الفلسطينيين العرب كمجاميع طائفية وليس كمجموعة قومية ناهيك عن التعامل معهم على قدم المساواة مع اليهود.
كما تتعامل مع الفلسطينيين كسكان فائضين عن الحاجة ولا مانع، حسب التلمود، من إبادتهم او التعامل معهم كجنس متدن يصلح للعمل في مزارعهم وحظائرهم ومستوطناتهم. ولمن لا يتذكر، فقط كان اليهود يقفون خلف كل اختراعات أسلحة الإبادة الجماعية في التاريخ المعاصر من غاز الخردل الذي اشتروا به وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى إلى القنبلة التي اشتروا بها اغتصاب فلسطين في الحرب العالمية الثانية.
الكذبة الثانية كذبة الدولة القومية “فإسرائيل” تفتقد إلى الشروط القومية الأساسية أضف إلى ذلك طابعها العسكري العدواني… فمعظم سكاتها فهم ينحدرون من مملكة الخزر التركية التي تهودت في نهاية الدولة الأموية وإليها ينتسب الاشكنازيم “اليهود الغربيون” وهي تفتقد لشرط الدولة القومية الحديثة في الغرب، “كما تزعم” فلم تتشكل في إطار حاجة برجوازية قومية على أرضها التاريخية، وضمن تشكيلة اجتماعية متجانسة – بل على إيقاع وظيفة إقليمية خارجية ومن مجاميع وسلالات متناثرة افتقدت على الدوام شروط الانصهار المدني الطبيعي وظلت العسكرة والعدوان العامل الحاسم في وجدتها الخارجية.
أما الأرض كعامل أساسي في الثقافة القومية فلا يهود القون العشرين، ولا يهود العصور الغابرة اهتموا بالأرض والزراعة إلا في حالات استثنائية فاليهود عبر التاريخ ظلوا يتراوحون بين الربا والتجارة وبين القتال كمرتزقة مع المصريين والفرس سابقا ومع الغرب في عصرنا الراهن….
ثالثا: كذبة الدولة العلمانية، بدليل ما قاله مؤسسها (العلمانويين): هرتزل (الدين هو العامل الأساسي في توحيدنا) ووايزمان (لقد وعدنا الله بهذه الأرض) وبن غوريون (كل يهودي لا يهاجر إلى “إسرائيل” خارج على الشريعة) وقوله أيضا (الجيش أفضل من يفسر التوراة) كما نعرف أن الإعلان عن “إسرائيل” تم كدولة يهودية وليست كدولة صهيونية كما تعتبر “إسرائيل” من الدول القليلة التي تشتق معظم قوانينها من الشريعة وتخصص مبالغ كبيرة للتعليم الديني الخاص (37%).
وفي الحقيقة فإن “إسرائيل” دولة طائفية أكثر منها دينية وهي امتداد لظاهرة الطائفة –الطبقة في شكل جديد من هيمنة الحاخامات داخل الجيتو إلى هيمنتهم داخل الثكنات…
ومن ذلك أيضا الصراع بين القوى الدينية نفسها على المناصب الوزارية والمخصصات (المالية) كالصراخ بين الأرثوذكس غير الصهاينة وبين الصهيونية الدينية، ومن المظاهر الطائفية الأخرى أن التشدد الديني ليس في حقيقته سوى غطاء للمنافع المادية (الإعفاء من الخدمة لطلبة المعاهد الدينية) كما ان معظم رجال ونساء الحريديم لا يعملون.
ويسخر كثير من اليهود الروس عندما يسألهم أحد عن البعد الديني أو الأيديولوجي لهجرتهم إلى فلسطين فمخصصات قانون العودة وليس القتال مع رب الجنود هو الذي دفعهم إلى ذلك.
ومن المعروف كذلك أن أكثر من جماعة يهودية أشهرها ناتوري كارتا (نواطير الهيكل) لا تعترف “بإسرائيل” الحالية ولا تعتبرها دولة يهودية بل تناهض فكرة الدولة من أساسها..
الكذبة الرابعة: كذبة الدولة المدنية، فلم تؤسس الصهيونية دولة مدنية برجوازية بل أسست نموذجا لدولة قديمة ما قبل رأسمالية، هي الدولة-القلعة. وكانت في كل ذلك تعبيرا عن نموذج الحامية والجغرافيا السياسية التقليدية، القائمة على التخادم السياسي.
وبالارتباط بذلك، لم تؤسس الصهيونية لمجتمع حديث مؤهل لإنتاج دولة حديثة، بل إن الدولة هي التي انتجت المجتمع، وكان بالضرورة وجهها الآخر.
فكما ولدت وعاشت الدولة العبرية على الريع الخارجي ولعبة التخادم السياسي، ولد المجتمع اليهودي على شاكلة دولته، واتسم بطابع ريعي- خيري مماثل وظل يعيد إنتاج بنيته الداخلية على ايقاع وظيفتها الخارجية، واستعاد صورة المجتمع الذي شهدته اسبارطة وروما، وكان ينقسم إلى سادة ونبلاء وبيروقراط، من جهة، وعبيد منتجين، حتى جهة أخرى.
فمقابل النبلاء اليهود، ومقابل العبيد يقوم الأغيار من العرب والعمال الآسيويون بالأعمال اليدوية. وبالارتباط بدولة الحامية ومجتمع الدولة الريعي، ظل الاقتصاد “الإسرائيلي” وبالرغم من عمليات الضخ الخارجي الكبيرة، اقتصادا شديد الارتباط بالموقع الإقليمي “لإسرائيل” داخل لعبة الأمم بين أحواض النفط والماء والطرق والممرات الكبرى وخطط التصدع العالمية… وأعاد إلى الأذهان اقتصاديات الدول القلاع القديمة، التي كانت تعيش وتتغذى على طرق التجارة وحماية القوافل والغارات المأجورة.
فبخلاف الطابع المستقل نسبيا للعسكرة عن البنية الاقتصادية – الاجتماعية في بلدان الديمقراطية الرأسمالية، تشكل العسكرة هنا، جزءا لا يتجزأ من بنية الدولة والاقتصاد “الإسرائيلي”.
وبخلاف الاقتصاد المفتوح في البلدان الرأسمالية الكبرى التي تدعو الدولة العبرية، تحتفظ هذه الدولة باقتصاد مركزي، ليس له ما يبرره سوى اعتبارات الوظيفة الخارجية وما تستدعيه من شروط اجتماعية خاصة على الصعيد الداخلي.
بالإضافة لكل ذلك، وبالاشتقاق من الوظيفة غير الطبيعية للصهيونية السياسية المذكورة، اشتقت الصهيونية من هذه الوظيفة أيديولوجيا غير طبيعية، في ملامحها ما قبل الرأسمالية، من جهة، وفي قدرتها على الاستمرار كذلك كواحدة من مظاهر الرأسمالية نفسها، ومن ذلك:
• فكرة التطويب المقدس للأرض، بوصفها حالة خلق جديدة مماثلة للخلق الكوني الأول وصورة عن الفعل النموذجي الذي قامت به السماء وجسدته في هبوط نوح على البر بعد تجاوزه الوحش المائي وما تستدعيه على البر الجديد من قرابين بشرية ضرورية للتطويب المقدس.
• فكرة الألفية أو العود الدوري التي لا يمكن تصور الأيديولوجيا الصهيونية بدونها. فهي الفكرة التي تضفي على الهزائم والكوارث طابعا مقدسا، بوصفها المسوغ التاريخي للانبعاث مرة أخرى، وهي الفكرة التي توفر جسرا أو صلة ما بين أيديولوجيا ما قبل رأسمالية كالأيديولوجيا في حقبتها الإمبريالية كما عبر عنها فوكوياما في “نهاية التاريخ”.
• فكرة الأمة أو الشعب، التي تتعالى على التاريخ والسيرورة، وتلغيها بإحالة المعرفة البشرية كلها إلى حدوس صوفية، وما عداها ضربا من الخطيئة.
ومن المفهوم ان الحدوس المقصودة في البنية التوراتية للخطاب الصهيوني، هي حدوس محسوسة ربانية للشعب المختار: لزوم الله عند ابراهام كوك، والقدرة العليا عند آحاد هعام، والأسطورة الحية عند هرتزل.