“الموسيقى هي لغة النفس الانسانية بكل ظواهرها وبواطنها”

ليس الشعر في عرفي، مجرد شعور كما عبر عنه شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، وبشارة الخوري في رده على الريحاني. إني أرى الشعر، على الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالا وثيقاً في المركّب العجيب الذي نسميه النفس. واعتقد أنه يصح في الشعر، إلى حد ما، ما قلته في الموسيقى وأجريته على لسان بطل قصة ألفتها سنة 1930 بعنوان “فاجعة حب” وطبعتها في بيروت مع قصة “عيد سيدة صيدنايا” سنة 1931، وهو يختلف عن نوع المشابهة بين الشعر والموسيقى الذي أورده شفيق معلوف في كتابه إلى عمه. إليك القول المذكور وهو بشكل حوار ومداولة ووصف روائي:

” كنا مرة مجتمعين في كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب فأخذنا نتحدث في كل علم وفن وحتى تطرقنا إلى الموسيقى. وكان بيننا من شب ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ “الألحان العربية” وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهما. وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتتان. فقدم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية لرقي تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية، ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حد التعبير عن الحالات الأولية. وتعصب أولئك، ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج والتمسك بمبدأ المحافظة، للألحان الشرقية.وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لحناً موسيقياً واحداً فقط يفضلونه على لحن ونغم غيره.

“وكان من وراء ذلك أن الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره حتى خشيت أن يؤول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلا ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبين وجه الصواب ووجه الخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليما في الأمر بصفة كونه خبيرا في نوعي الموسيقي الشرقي والغربي، ومحبا للإنصاف والحقيقة فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلا:

“أتدري، يا صاحبي، لماذا وجدت الموسيقى؟”

فأجاب بهيج بلهجة الموقن: أجل وجدت الموسيقى لتكون لغة العواطف”.

قال سليم- “لو كنت خبيرا بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى في ثلثي مزاياها على الأقل”.

“فهتف أربعة دفعة واحدة:” ثلثي مزاياها؟!”.

“سليم:”نعم، ثلثي مزاياها”.

“بهيج: “إذن، كيف تحددها أنت؟”.

“سليم: “إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب بل هي لغة الفكر والفهم أيضا. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها. وإن شئت فقل أن الموسيقى تتناول الميول الأولية والعواطف والحالات النفسية على أنواعها والأصوات على اختلافها والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني، عينها. فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وأن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مما تقدم أن وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وإن الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أن الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وأن تعددت الأمزجة. إن عواطف الحب والبغض والرقة والقسوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية تقتصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبه النفوس وارتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزا عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم ابتدائية أيضا. وهي في هذه الحالة لا تعبر عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية التي تمثل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك القوم الذي تحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذا لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصرا على “وصال الحبيب” بل أصبح مطلبا أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولدا في نفوسهم العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة مما لا يستطيع فهمه من همه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام. هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية، لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقى النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ، مثلا، سنفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابليون بتيار من الأنغام تحول إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جاريا وسيظل جاري أبد الدهر! انظر إلى معزوفاته الأخرى (كسنفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء – بين الموت والحياة، وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه) ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضا. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عند الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار”.

“بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء. فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثا من هذا النوع. وبعد صمت ظهر في أثنائه أن الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطبة سليم ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه قال بهيج “ما رأيك إذا في موسيقانا؟”. “سليم: “الحقيقة يا صديقي، أنه ليس لنا موسيقى تعد نتاج نفسيتنا نحن السوريين من حيث أننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألحان الشائعة بيننا فليست مما نشأ في نفسيتنا بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصير كبيرا عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إن الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب”.

“بهيج: “إذن، أنت تفضل الموسيقى الغربية”.

“سليم: “قلت إنه لا تفضيل في الموسيقى. إنما إذا كنت تريد معرفة رأيي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى وموقف أهل الغرب منها فإني أصارحك أن شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون أنفسهم شرقيين. قد عدلوا عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة. أو هم قد اقتصروا، في الموسيقى، على طائفة من الألحان لا يجدون عنها محيدا. وهذا كان شأن أهل الغرب أيضا، إلا أنه لما ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنه. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك فأحدثوا في الموسيقى تطورا خطيرا. إذ أنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلا عن الشعر. وهكذا استتب لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. أن التقاليد القديمة المستعارة قيدت نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية قد أصبحت حائلا بيننا وبين الارتقاء النفسي. إن في فطرتنا ونفوسنا شيئا أسمى مما تعبر عنه هذه الالحان الجامدة، شيئاً اسمى من الشهوات والعواطف الأولية. إن في أنفسنا فكرا عاطفيا وفهما عاطفيا يتناولان التأملات العميقة في الحياة والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي، قومي، روحي، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية، محدودة، معينة، كحالة الحزن أو حالة التدله في الغرام، فإن نغما وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم أو حالة الجذل والابتهاج او حالة التأمل، بل إن لحنا وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبر عن هذه الحالة مع مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقـّى شعورها وأكسب الحالة النفسية المقصودة معاني جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تقربنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي تغذي الا العواطف الدنيا. وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا وافكارنا وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها”.

“لما أتم سليم عبارته التفت إلى الرفقاء فوجدت بهيجا وأصحابه قد وقفوا على أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل. ثم أن أحدهم نظر إلي وخاطبني قائلا:” ما رأيك يا سيد، في ما يقوله السيد سليم؟”.

“قلت: “إني أوافق على جميع ما قال واتخذ من حكمه في الموسيقى حكما في الأدب. انظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين، لأن حدي العيس ليس من شؤون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتـّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية وسهلية خضراء. إن التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني لاعتقد أنه لا بد من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير الروحية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية، معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري”.

“وبعد صمت قصير انصرفنا وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تزده الأيام إلا رسوخا.

“إن الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصرا وأمة. والذي أعلمه أن سليما كان قد ابتدأ ينظم سنفونية في انتهاء عهد الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب علي أن أروي أن سليما كان يعتقد أن نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن لأنه كان موقنا من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأنا وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمرا تافها إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد. سواء أكان رجلا أم امرأة، شابا أم شابة، أدب حي وفن وموسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاونا خالصا وتعاطفا جميلا يملأ الحياة آمالا ونشاطا. حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئا قابل الإنتاج. وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية”.

انظر الآن، بعد مرور إحدى عشر سنة، في هذا الاستعراض لحالة فن الموسيقى وحالة الأدب في بيئتنا ونوع النفسية المسيطرة على مجموعنا، الموروثة من أزمنة السقوط تحت مطارق الفتوحات البربرية وأمواج النفسية الشرقية، فأرى أني قد صورت حالة التخبط في المواضيع الفنية والأدبية السائدة في أوساط متنورينا وأوضحت طريقة الخروج من تلك الحالة. وإني أوافق الآن على ما صورت في القصة وأرى أنه ينطبق على ما أتناوله في البحث الحاضر من التخبط الأدبي والصراع الفكري في الأدب وعلى ما أصف به الآن الأدب عامة والشعر خاصة. وأرى فيه، عدا ما تقدم، صلب الموضوع.

قلت أن المشابهة بين ما قلته وأقوله في الموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر تختلف عن المشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه حيث يقول: “أن لي رأيا آخر في الشعر. فهو في عرفي، ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس. ولا تتعدى فائدته – في أحايين كثيرة – منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية” فهذه المشابهة بين الشعر والموسيقى لا ترفع الشعر ولا الموسيقى ولا تعطيهما المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها وانفلت من الحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديمة إلى الحياة والفن ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة اللذين حددا للشاعر المذكور الشعر والموسيقى تحديدا مضنكا.

أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيي هناك مقتضبا لم أحلل فيه غير قوله “يصور للناس نفوس الناس”. ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى. وأتناول “تصوير النفوس” فأقول أن هذا التصوير لا يمكن أن يحدث بواسطة “الشعور النابض” وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور المذكور جاء تصويرا مشوها وناقصا. والأرجح أن يكون حينئذ تصويرا لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس وقد يكون وعي الشاعر كاملا وقد يكون ناقصا. وفي كل حال فالوجهة الوصيفة بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحت (سبيكتيف) وضيقة جدا لأنها تكون منحصرة في نفس الشاعر وغير متناولة نفوس الناس كما هو نفوس الناس ولا أشواقها إلى ما تحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس الوعر وعلم الاجتماع والفكر الذي يجب ان يلازم الشعور او يتقدم عليه او يقودهفي هذا المسلك الوعر. فتخصيص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة “الشعور النابض” الذي يوحي الاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي التمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها تخصيصا موقفا، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعرا,. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة أو بعضها أو مظهرا من المظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعرا. أما الشاعر الذي “يصور نفوس الناس” ويعني بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر أو كل شاعر، بل شاعرا ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة. وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.

إن خليل مطران شاعر من غير ان يدخل المسائل النفسية. ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه المسائل. فقصيدة “نيرون” قطعة شعرية خالدة سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة ما تعلق منها بالمسائل النفسية. وشفيق معلوف شاعر في “الأحلام” ولم يصور فيها نفوس الناس وفي “عبقر” وفيها قليل من القضايا النفسية وصورها وأوصافها أو هي معدمة من هذا القبيل. ولا نجد في “عبقر” “الشعور النابض” الذي نجده في “الأحلام” إلا في مقاطع خاصة تدل ميولها البيولوجية على عدم النضج النفسي.

ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر حدد له إدراك سمو الموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها “لا تتعدى” فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة “مطربة كانت أم مشجية” جعله لا يرى للموسيقى غير ناحيتي الطرب والشجا. وهذه هي الموسيقى المحدودة، الضيقة الأولية. هذه هي الموسيقى المحدودة الضيقة، الأولية. هذه هي الموسيقية في نظرة إلى الحياة ساذجة، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد المثال الأعلى الخالد.

الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن والمناحي الروحية. وقد رأى القارىء مما قدمت نقلا عن قصة “فاجعة حب” أن فائدة الموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجو إلا حيث جمدت الموسيقى عند حد هذين الشعورين الأولين بجمود حياة البيئة ماديا وروحيا. فالموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلا عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الحياة البيولوجية أو الجنسية. ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راق أو إنتاج مخيلة مبدعة قدرت بذاتها أن تتصور عالما من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان تحتاج بدروها إلى عصر يفهمها. وهذه المخيلة المبدعة يجب أن تكون متأثرة بإحساس بقضايا الحياة عال جدا لا يكون، في الغالب، أو لا يجب أن يكون، إبداعا خاصا بالموسيقى المبدع.

لأشرح هذه النظرية: أن واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاًباحساس الحياة المستمد من الاساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفية المنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعا للنظرة المذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية أو الجنسية الجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك المثل العليا الفلسفية التي نراها تمثيلا ونسمعها ألحانا وأناشيد في “ولكيريا” و”سيقفريد” و”ذهب الرين” و”تاتهويزر” و”لوهنقرن” و”أساتذة الغناء” و” ترستان وايزلده” وغيرهما. فكان واغنر شاعرا روائيا، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية وكان موسيقيا روائيا فلسفيا لأنه ألف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جدا. ويصعب على الدارس المفكر تصور وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية وتأثره بنظرة إلى الحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألمانيا اتجاهها الصعودي.

وإذا ذهب أحد من أدباء العصر السوري الهالك إلى “أوفرة” وسمع ألحان واغنر أفيسر بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجو إلا قليلا وأكثر وأهم تأملات فكرية واتجاهات فلسفية لا يقدر على تتبعها من غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيرا عن شعور الطرب وشعور الشجو في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعة البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على أحداث جذل أو انبساط أو شجو فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفيسة، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومثل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين النبل والأرذل.

لا يكون موقف أديب الجمود والخمول السوري تجاه موسيقى بيتهوفن أو بخ أو موسرقسكي أو ويبر أو بروكنر أو تشايكوسكي أو بردين أو رمسكي – كرازكف أو سترانسكي أو شوفين أو برليوز أو دبسي أو سباليوس أو دورياك أو شوبرت أو غيرهم، غير موقف المستغرب أو المستهجن.

فمنذ سنين سمعت كاتبا سوريا في سان باولو ، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول أنه دخل مرسح”المونيسفال” في المدينة المذكورة ليسمع إحدى سنفونيات بتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به المقام حتى عاف السماع وخرج من المكان في حيرة من بلاهة الناس الذين يطيقون الجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد لسماع موسيقى لا طرب فيها “لطيب العناق على الهوى” ولا شجو فيها “لطول ليل الصب”، ولشدة سأم “الأديب الكبير” المذكور مما سمع من هزيز ودري وزمزمة وحفيف وكشيش وقرع، وليفرج كربه، طلب من صاحب المكتبة السوري التي كان يروي فيها قصته، أن يسمعه بعض أناشيد المغنية المصرية أم كلثوم المطربة، المشجية! ولم يكتف بذلك بل صار ينادي صديقا له مارا بالمكان وقول له:” تعال لنموت بهذا الغناء” وهو لا يدري انه يقول الحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لمعنى آخر!

مع أن الشعر أضيق مجالا من الموسيقى للتعبير عما تشمله النفس الإنسانية من فكر وتصورات وشعور ومنازع، فإن ما حدد به شفيق معلوف الموسيقي وفائدتها جعل الشعر نفسه بالمشابهة أضيق مجالا وأقرب قعرا مما هو أو مما يمكن أن يكون، بعد أن تنجلي لنفس الشاعر نظرة أعلى في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية ومطالب اسمى لجمال النفس وإحساس أدق بأغراض الوجود وجوهره المستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله. فإني اعتقد ، بطبيعتي السورية، أن كيان النفس هو في الوجود ولأجل الوجود، مهما كانت طبيعة هذا الوجود في ذاته، ومهما كانت علته، وليس لأجل “الفناء” في “وحدة الوجود”.

لا أعتقد أن بلوغ هذه المرتبة يتم للشاعر السوري أو غيره بقراءة سفر أشعيا من التوراة اليهودية ولا بتقوية الاتصال “بالأدب القديم” الذي هو تعبير غامض في ذاته ولا بأحسان الآداب الأجنبية القديمة التي أوجدت الأدب الاجنبي الحديث ولا بتوشية الكتب واتقان الطباعة، بل بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة والكون والفن الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الأيام.

“الزوبعة”، العدد 53، في 01 أكتوبر 1942