شن العدو الصهيوني على لبنان هجوما واسعا في حزيران 1982، استهدف كسر القوى الممانعة لاتفاقية كامب ديفيد وعلى رأسها دمشق وتحالفاتها، مقدمة لتعميم هذه الاتفاقية فلسطينيا ولبنانيا.
ذلك ما أكده المحلل العسكري الإسرائيلي، زئيف شيف في كتابه (الغزو الإسرائيلي للبنان)، يقول: في التحضير لهذا الغزو، كان العدو بحاجة كما سنرى لغطاء أمريكي محمولاً بذريعة أخرى، كما كان العدو استكمل لقاءاته مع القيادة العسكرية لحزب الكتائب اللبناني ممثلة ببشير الجمّيل، كما عبر لقاءات سرية أخرى مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
أما الهدف فكان أمريكياً – إسرائيلياً مركباً، لإخراج القوات الفلسطينية من لبنان ولضرب سوريا وتحالفاتها مع موسكو. وكانت (إسرائيل) قد بدأت معركتها مع سوريا بالإعلان عن ضم الجولان (ص42) مستغلة التوتر السياسي السوري – الأمريكي الناجم عن دعم ترشيح سوريا لفرنجية لانتخابات الرئاسة وعن زيادة التعاون السوري – الروسي (ص7-9).
ولم يشر الكتاب إلى الخلفية السياسية الأخطر وهي تمرير مبادرة الأمير فهد، وإنعاش قمة فاس مجدداً بعد تنظيم دمشق حملة واسعة ضد كامب ديفيد.
الذريعة والأدوات
بحسب الكتاب كانت (إسرائيل) بحاجة إلى ذريعة تغطي الموقف الأمريكي، فما من قوى إقليمية تأخذ قراراً بالحرب دون دعم قوة كبرى (ص7) أما الذريعة فقد توفرت بعد إقدام مجموعة فلسطيني تتخذ من بغداد مقرا لها، بإطلاق النار على سفير (إسرائيل) في لندن في 3 حزيران 1982، ويضيف زئيف شيف أن فريق الاغتيال تلقى الأسلحة من الملحق العسكري في السفارة العراقية (ص73-76). كما يلمح إلى أن وزير الدفاع شارون لم يكن حاضراً في مجلس الوزراء الإسرائيلي عندما جرت الحادثة لتكليفه في مهمة خارجية (ربما تحضيراً لعملية الاغتيال). (ص73).
الاتصالات الإسرائيلية مع بشير الجميّل
بحسب الكتاب ما إن عاد شارون حتى اتصل مع بشير الجميل وطلب منه الاستعداد للاجتياح الوشيك (ص80) وقام بزيارته في معقله في لبنان، كما التقى خلال الزيارة نفسها مع الرئيس اللبناني الأسبق، كميل شمعون (ص23-28)، وأكثر من ذلك فقد استقبل شارون بعزف (النشيد الإسرائيلي). (ص172)
قيادة عرفات تستعد لما بعد الغزو
رغم أن القيادة الفلسطينية بزعامة عرفات أشارت إلى علمها بالغزو إلا أنها لم تستعد لمواجهته بقدر ما استعدت للتعاطي مع استحقاقاته، بل إنه عندما طرح عرفات وممدوح نوفل (الجبهة الديمقراطية) فكرة توحيد الفصائل في جيش نظامي كان رأي أبو الوليد (سعد صايل) أن الخطوة لا تستهدف مواجهة إسرائيل بل التعاطي مع تداعيات هذه المواجهة عبر ضبط الجميع تحت سياسة معينة.
بحسب الكتاب كان عرفات يعرف بالهجوم سلفاً من أكثر من مصدر بينها المخابرات المصرية، والمعسكر الماروني نفسه، ممثلاً بالأخوين بشير وأمين الجميل (ص57-68)، فقد التقى ممثلو عرفات بينهم صلاح خلف (أبو إياد) مع الأخوين الجميل قبل الاجتياح وتبادلا أفكاراً حول التنسيق ضد سوريا مقابل إعادة الدامور للكتائب وتوريط دمشق في حرب مع إسرائيل. وزاد هذا التنسيق لاحقاً بعد دعم سوريا (للانشقاق) في فتح (ص206) إلى درجة إدخال أسلحة (من العراق) إلى الإخوان في سوريا 1982/1983. أيضاً، يذكر زئيف شيف أن صلاح خلف (أبو إياد) رد على طلب عسكريين من فتح بوضع خطة لملاقاة (الإسرائيليين) في الجنوب قائلاً: لا تزعجوا أنفسكم بالذهاب إلى الجنوب، فهم قادمون إليكم هنا. (ص8)
والصحيح أن قيادة عرفات لم تتعامل بهذا المستوى مع أخبار الغزو الوشيك إلا بعد أن دخلت في حوارات غير مباشرة مع الإسرائيليين عبر المستشار النمساوي اليهودي، كرايسكي، مما أغضب موسكو ودمشق.
المخيمات الفلسطينية تدفع الثمن
ظلت المخيمات الفلسطينية الفقيرة في لبنان، مصدر قلق للإسرائيليين كما يعترف زئيف شيف، (ص106) وللقيادة الفلسطينية القوى الانعزالية معاً، ولصعوبة السيطرة عليها وترويضها. ولذلك وبالرغم من تعويل (الإسرائيليين) على ضعف المقاومة خلال الغزو، إلا أنها فوجئت بمقاومة عنيفة من مخيمات مثل عين الحلوة (ص106) كما أن مخيم تل الزعتر، قبل ذلك بصموده الهائل نقل لعبة الاستثمار السياسي بالدم إلى عبء على استراتيجية المساومة العرفاتية وفضح الجرائم الكتائبية المروعة.
مما جعل التحالف الإسرائيلي – الكتائبي أكثر حذراً من مخيم صبرا وشاتيلا، فجرى تفريغه مسبقاً من المقاتلين عبر صفقات حبيب مع عرفات، قبل أن تنفذ فيه القوات اللبنانية الذراع العسكري للكتائب آنذاك أبشع جرائم العصر، بدعم وإشراف شارون وضباطه الذي سبق واحتجزوا معظم الذكور في ساحة مهجورة قرب فندق الهوليدي إن. (ص181)
الاستحقاقات الفاشلة للغزو: انتخاب بشير رئيساً ومقتله وسقوط اتفاق أيار
استهدف الغزو(الإسرائيلي) للبنان تثبيت رئيس لبناني متحالف مع تل أبيب والالتحاق بكامب ديفيد عبر اتفاق لبناني – إسرائيلي، وتمرير مبادرة فهد عبر شكلها الجديد (مشروع ريغان) وتصفية القضية الفلسطينية، وقصم ظهر سوريا وفك تحالفها مع موسكو.
لكن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق، فالرئيس بشير بعد انتخابه بتصويت مسلح 57 نائباً (مسلح كتائبي خلف كل نائب) من 65 نائباً حضروا الجلسة (ص164) سرعان ما لقي حتفه بعد أقل من شهر على انتخابه في تفجير استهدف معقل الكتائب في الأشرفية في بيروت، واتهم بالعملية حبيب طانيوس الشرتوني، المقرب من الحزب السوري القومي الاجتماعي (ص172).
ومن الحيثيات الأخرى، قبل وبعد مقتل الجميل، بحسب زئيف شيف، استدعاء الجميل بعد انتخابه إلى نهاريا والالتقاء مع (بيغن) الذي طلب منه زيارة مثل زيارة السادات إلى تل أبيب أو القدس كما طلب منه التفاهم مع سعد حداد (رجل إسرائيل في الجيب الحدودي) علماً بأن بشير كان يطمح بالاستفراد بالقرار (المسيحي) دون أي مشاركة (ص165-166).
بعد مقتل الجميل التقى شارون في الكارنتينا قرب بيروت بقادة حزب الكتائب وحذرهم من التفريط بزمام المبادرة للجيش اللبناني (ص179)، ولعل تلميحات زئيف شيف المذكورة تؤكد أن (تل أبيب) ليست بعيدة عما عرف بحرب الإلغاء داخل الصف المسيحي وأدت إلى الصدام مع الجنرال عون وتصفية العديد من القادة المسيحيين الآخرين. مما يذكره زئيف شيف أنه بعد مقتل بشير الجميل انقسم التحالف الأمريكي – الإسرائيلي بين دعم أمين الجميل (الأمريكان) ودعم مدير المخابرات، جوني عبده (تل أبيب). (ص200)