منذُ ثلاثةٍ وسبعين عاماً إرتُكِبَت في جنوبِ بلادِنا أفظعُ جرائمِ التاريخ من قِبَلِ العصاباتِ الصهيونيةِ الهمجيةِ المتحجّرةِ في مُعتقداتِها والممتلئةِ حقداً ولؤماً وكراهيةً للشعوب، إذ اغتصبتْ تلك العصاباتُ فلسطينَ الحبيبة على مرأى العالمِ وبمباركتِه، وارتكبتِ العديدَ من المذابح ِوالمجازرِ الجماعية بحق أهلِنا الآمنين، ودمّرتْ ما يقاربُ الخمسمائةَ من قُراهُم، وشرّدتْ مئاتِ الآلافِ منهم، الذين طردوا من بلداتِهِم وبيوتَهُم بالقوة ولجأوا إلى الكياناتِ المحيطةِ بفلسطين. ودنّستْ تلك العصاباتُ الأرضَ والمقدساتِ، وراحت تمعن ُبالبطشِ والقتلِ والهدمِ وارتكابِ الجرائمِ الفظيعةِ، والاستيلاءِ على الأراضي والممتلكات، بهدفِ السيطرةِ على كاملِ فِلسطين، تحقيقاً لحُلمِهِمِ التوراتيِّ الخُرافيِّ بإنشاءِ الدولة اليهودية العنصريةِ القائمةِ على الظلمِ والعدوانِ والإستيطانِ والتوسعِ والاحتلال.
وعلى مدى ثلاثةٍ وسبعين عاماً من الإنتهاكات الممنهجة وسياسات القتل والإغتيالات والإعتقالات وحملات التطهير العرقي والتدميرِ الممنهج، وشعبُنا صامدُ في أرضِهِ، وصابرُ على المآسي والظلمِ والقهرِ والتعسُّفِ والطغيان.. ورغم المعاناة الهائلة ما زال شعبُنا المقيمُ والمُشرّدُ يتمسكُ بحقِّهِ في الحياة وبحقِّ عودتِهِ إلى أرضِهِ وممتلكاتِه، مهما طالَ الزمنُ على تشرّدِهِ وتحمّلِهِ مآسي العيشِ في مخيماتِ الذلِّ والألمِ واليأسِ والحرمانِ.
وعلى مرِّ السنين، بدأت تتأكدُ الحقيقةُ الساطعةُ التي جاهر بها أنطون سعاده موضحاً طبيعةَ المشروعِ الصهيوني ومؤكداً أنّ الخطرَ اليهوديَ على فلسطين هو خطرٌ على سورية كلها، هو خطرٌ على جميعِ هذه الكيانات.”
ولكن شعبَنا أثبت بالبراهين ِالقاطعة أنه شعبٌ جبّارٌ يرفضُ الذل َوالعبوديةَ، ولا تهزمُهُ النكباتُ والويلات، بل يواجهُ الصعابَ بكل عزمٍ وإيمان، ويصارعُ بكلِّ بطولةٍ وعنفوان، مقدماً الأرواحَ والتضحياتِ الكبيرة من أجلِ الحريةِ والشرفِ والكرامة.. العدو يشنُّ علينا العدوانَ تلو العدوان، ويحاولُ التمدّدَ باتجاهِ الشام ولبنان والإستيلاء على ثرواتنا، ولكنَّ شعبَنا المصارعَ والمؤمنَ بالحياةِ لا يركعُ ولا يستسلمُ ولا يهادنُ ولا يستكين، بل يقاومُ المحتلَّ بصبرٍ وعزيمةٍ وإرادةٍ صلبةٍ وإيمانٍ راسخٍ وثقةٍ بالنصر. ويوم احتلَّ العدوُّ جنوبَ لبنان في ثمانينياتِ القرنِ الماضي، انطلقتِ الحركةُ القوميةُ الإجتماعيةُ بعملياتِها الإستشهاديةِ الرائدة مجسِّدةً البطولةَ الأسمى ومعبّرةً عن كرامةِ شعبِنا وتوقِهِ للحرية.. وتتالتْ عملياتُ المقاومةِ الباسلةِ متألقةً بجنودِ النهضةِ القوميةِ وبمشاركةِ القوى الوطنيةِ وحزب الله وأدت إلى هزيمةِ العدوِّ المحتلِ وطرده ذليلاً من جنوب لبنان.. لذلك نحتفل اليوم بعيد المقاومة والتحرير المجيد، وبهذه المناسبة المُشّرقة والسعيدة نرفع أسمى التحايا لأبطال المقاومة ولشهدائها اجلالاً لتضحياتهم وبطولاتهم وللدماء السخية التي قدموها ليصونوا كرامة لبنان وحريته واستقلاله.. وعسى أن نستكمل هذا الانتصار بتحرير مجتمعنا من عيوبه وأمراضه وفي طليعتها الطائفية والفساد المستشري.
ومن صفوفِ هذا الشعب، انطلقتِ المقاومةُ السوريةُ لتحريرِ الجولانِ المحتل رافضةً الهويةَ “الإسرائيلية” وقرارَ ضمِّ الجولان الصادرَ عامَ 1981، كما انطلقتْ في فِلسْطينَ المغتصَبَةِ وتجسّدت أفعالاً وبطولاتٍ في انتفاضاتٍ متكرّرةٍ شاركَ فيها بكلِّ عزيمةٍ وإقدامٍ رجالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وأطفال، يتصدّون بأجسادِهِم وبالحجارةِ والمقلاع لجنودِ العدو، ويقاومون إعتداءاتِهِ الإجراميةَ ومشاريعَهُ الإستيطانية التوسعية.
وها هو شعبُنا في فلسطين اليوم يُثبِتُ مجدداً، بصمودِهِ وصلابتِهِ ووِحْدتِهِ وإصرارِه، على تحريرِ أرضِه فيهبُّ بانتفاضةٍ عارمةٍ وبقلبٍ واحدٍ دفاعاً عن فلسطين.. ينتفضُ بكلِّ عزيمةٍ ليكتُبَ صفحاتِ العزِّ بالدَّمِ والنّار، وليُسَجِّلَ بكفاءةٍ عاليةٍ وقتالٍ منقطعِ النظير، الانتصاراتِ العظيمةَ على هذا العدوِّ المدعومِ من الاستعمارِ الغربي ومنَ الأنظمةِ العربيةِ المتصهينة، وليفرِضَ معادلاتٍ جديدةً على الأرض.
لقد بدأ شعبُنا في فلسطين – أرضِ الصمود – وفي كل كياناتِ الأمة، يعي أن تحريرَ الأرضِ لا يُنْجَزُ بالمساوماتِ والإتفاقياتِ المذلّة، ولا بالتسكُّعِ والاتّكالِ على أنظمةِ الذُّلِ والتبعيةِ والتطبيع، بل بتقديمِ التضحياتِ وبمواجهةِ العدوانِ بوحدةٍ متينةٍ وبمقاومةٍ شرسةٍ وضرباتٍ موجعةٍ وبلغةِ الحديدِ والنار – لغةِ القوة – “القولُ الفصلُ في إثباتِ الحقِّ القوميِّ أو إنكارِه.”
وبالرغمِ من التطورِ النوعيِ الذي أحدثته المقاومةُ في صناعةِ مستقبلِ فلسطين، وفي الدفاعِ عن كل شبر منها وعن أبنائها، وبالرغمِ من تفوقِ المقاومةِ بضربِ عُمقِ العدوِ بصواريخِها وبتعطيلِ الحياةِ في مدنِهِ ومرافقه، يجب ألاَّ نستهينَ بقوةِ هذا العدوِ الغاشم، وبالدعمِ السخيِّ الذي يتلقاهُ من الغربِ الأميركاني-الأوروبي ومن الحركةِ الصهيونيةِ العالميةِ الإرهابيةِ المسيطرةِ على مراكزِ القرارِ والمالِ والإعلام.. وهذا يقودُنا للقول بأن تحريرَ كاملِ فلسطين ليس مستحيلاً وسيكونُ ممكناً وقريباً إذا لبّينا نداءَ الواجبِ القوميّ، وتوحَّدنا جميعاً حولَ فلسطين واعتبرناها جزءاً من قضيةٍ واحدةٍ كاملةٍ، هي قضيةُ الأمةِ جمعاء.. فإنقاذُ فلسطينَ مسؤوليةٌ قومية، وكما يقول سعاده: “هو أمرٌ لبنانيٌ في الصميم، كما هو أمرٌ شاميٌ في الصميم، كما هو أمرٌ فلسطينيٌ في الصميم.”
ونحن، إيماناً منا بالمقاومةِ الشاملة لهذا العدوِ المتغطرس والطامع بأرضنا وبثرواتنا ونفطنا، نكرّسُ كل امكانياتنا ومنابرَنا الإعلاميةَ وأقلامَنا في معركة المصير القومي وفي خدمةِ قضيةِ فلسطين المحورية، قضيةِ الحقِ القومي، فلسطينُ بوصلةُ الصراع، الحاضرةُ في عقولِنا ووجدانِنا.. فلسطينُ الشامخةُ المنتصرةُ والساكنةُ في القلبِ وبين الجفون.. هي الشهيدةُ الناهضةُ بأطفالِها ونسائها ورجالِها الشامخين الذين يعانقونَ الموتَ لتبقى القضيةُ حيّةً، لأن العيشَ بلا حريةٍ تحتَ رايةِ الإحتلال جريمةٌ وعار، “ويا لذلِ قومٍ لا يعرفونَ ما هو الشرفُ وما هو العار!”
وبهذه المناسبة، نعلنُ أننا مقاومون في لبنان وفي فلسطين وفي الجولان. فنحن لبنانيون في يوم لبنان، وفلسطينيون في يومِ فلسطين، فعدوُّنا واحدٌ وفلسطينُ جزءٌ من قضيتِنا الكلية، قضيةُ حياةِ الأمةِ وحريتِها وسيادتِها على نفسها.. لذلك جئنا اليوم لنرفعَ التحيةَ لكل المقاومين في لبنان المقاوم وفي فلسطينُ الشامخة وفي شام الصمود، ولنباركَ انتصارَات شعبنا في هذه الجولةِ من حربِنا الطويلةِ مع هذا العدوِّ اللئيم.
نحييَكُم يا رجال المقاومة ونساءَّها في جنوب لبنان، ويا أطفالَ فلسطين ورجالَها ونساءَها الأبطال.. جئنا لنرفعَ تحيةِ الإكبارِ والإجلالِ لكم يا شهداءَ لبنان وفلسطين، يا أبطالَ الأمة من الشام ولبنان ومن غزة وحيفا ويافا والضفة ونابلس وعكا والجليل.. لكم التحيةُ أيها الصامدون في أرضِكم المقدسة والراسخون في ترابِكم المجبولِ بدماءِ الشهداء.. لبنان سينتصر وفلسطينُ ستنتصر، ولن يصادروا منا وطناً نفتديه بالدماء التي تجري في عروقنا.. سننتصر وستبقى بلادنا وطناً للخيرِ والحقِ والجمال.
رئيس الندوة الثقافية المركزية الدكتور ادمون ملحم.