معروف أن الوظيفة الإمبريالية للكيان الصهيوني تتمثل بترجمة اتفاقية سايكس بيكو، التي كرست تقسيم سوريا الطبيعية إلى كيانات متناثرة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من شروط الدولة القومية الحديثة.
بهذا المعنى، من التجليات الأخرى المنسية لهذه الوظيفة، إطلاق إسرائيليات غير يهودية بدلالة الوظيفة ذاتها.
تعيدنا التطورات والاصطفافات والتحالفات الأخيرة في المنطقة، إلى ملفات مؤجلة أو مغلقة أو محجوبة، تقدم مقاربات أخرى للصهيونية غير اليهودية، بل ولليهود (غير اليهود) أيضا.
فالاصطفافات المذكورة ليست بنت لحظتها وليست سياسية عابرة أو مجرد (إقحامات) تصطاد بالماء العكر، وهي تتابع (ذوبان الجليد) عن العلاقات السرية بين تل ابيب ومراكز الرجعية العربية، والعثمانية الجديدة:
- عرفت الصهيونية الأولى بالصهيونية غير اليهودية أو (الصهيونية المسيحية) حين راحت مراكز رأسمالية استعمارية في العقود الأولى من القرن التاسع عشر تحث أوساطا أوروبية مسيحية إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها باسم أو تحت ذريعة الدفاع عن القبر المقدس، ومتى؟ مع تصاعد العلمانية وهزيمة الفكر الكنسي في أوروبا.
وقد ولدت هذه الفكرة لفصل مصر عن بلاد الشام مع صعود البرجوازية الوطنية المصرية بزعامة محمد علي ودعوته لتوحيد الشرق العربي في مواجهة التحالف البريطاني – التركي.
ويشار كذلك إلى دعوة مبكرة جدا، وهي دعوة الانجليزي هنري فنش في كتاب (الاحياء العظيم للعالم 1621) - وبسبب فشل الصهيونية الأولى، ركزت المتروبولات على اليهود، عبر نداء نابليون الشهير، كما عبر روايات رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، دزرائيلي، الذي ظل يهوديا متخفيا حتى سنوات قليلة من وفاته.
وكما في الصهيونية الأولى، لم تتردد (أوروبا البرجوازية العلمانية) في استخدام خطاب ديني يحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين دفاعا عن (حائط المبكى) المزعوم والأرض الموعودة.
وبالإضافة للهدف السابق (عزل مصر عن بلاد الشام كما اقترح كامبل بنرمان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق) كانت الدول الاستعمارية معنية بتأمين قناة السويس التي كانت تحت سيطرتها ولم تتمكن هذه الدول من إقناع اليهود بالمشروع إلا في مناخات الحرب العالمية الثانية وما تعرض له اليهود وغيرهم من الجماعات التي استباحتها القوات الهتلرية. - أما الموجة الثالثة من الصهيونية، فهي الصهيونية الوهابية التي عادت للظهور في السنوات الأخيرة رغم أنها سابقة للصهيونية المسيحية واليهودية.
ووجه الشبه مع الصهيونية كامن في الوظيفة الاستعمارية لها، من جهة وفي خطابها من جهة ثانية وفي أساليبها من جهة ثالثة.
فكما كانت الصهيونية اليهودية، أداة للاستعمارين القديم الأوروبي، والجديد الأمريكي، ضد القوى الوطنية والقوى الإقليمية والدولية المنافسة، لعبت الصهيونية الوهابية بتحالفاتها وتعالقاتها السياسية المعروفة الدور نفسه، من مواجهة الباب العالي عندما كان القوة المنافسة لأوروبا وتكفير الأتراك بالجملة، إلى مواجهة موسكو وتكفير حركة التحرر العربية والصراع معها، سواء في اليمن أو افغانستان وغيرها.
وكما قامت الصهيونية اليهودية على فكرة رب الجنود و(شعب الله المختار) واعتبار بقية الشعوب غوييم في منزلة الحيوانات، قامت الصهيونية الوهابية على فكرة تأويلاتها الخاصة للفرقة الناجية وآية السيف.
والمفارقة الأوضح على هذا الصعيد هو الشبه الكبير بين الصهيونية اليهودية والصهيونية الوهابية في اعتماد (الوحدات الاستيطانية المسلحة) شكلا اجتماعيا وايديولوجيا لها. - في ضوء ما سبق فان كل ما يقال عن اتصالات وتنسيق بين الصهيونية اليهودية ممثلة بالعدو الإسرائيلي، وبين الصهيونية الوهابية وظلالها وتعبيراتها النفطية، ليس كلاما في الهواء بل محصلة تاريخ أسود طويل عنوانه مواجهة حركة التحرر في عموم المنطقة بل في العالم كله.
إلى ذلك، ثمة ما يقال عن أكثر من يهود أيضا، وهم يهود خيبر ويهود الدونمة ويهود الخزر، ويشار هنا إلى أن تركيا عرفت النمطين الأخيرين، مما دفع مؤرخين أتراك (وإسرائيليين) إلى اعتبار دولة العدو الصهيوني جزءا من المشروع الطوراني القومي التركي، بل أن هناك من اعتبر دولة الخزر التركية المتهودة هي أول ظهور للأتراك على مسرح الشرق.
وقد نشأت وصعدت هذه الدولة في عهد الملك بولان مع نهاية الدولة الأموية، وذلك عندما ازدهرت طرق التجارة الخاضعة لنفوذها وظلت كذلك إلى أن انهارت تحت ضربات الروس والمغول، وتشتت في كل أوروبا، وصار يعرف يهودها (الأتراك) باليهود الغربيين (الاشكنازيم) الذين استوطنوا فلسطين لاحقا وشكلوا ما يعرف بـ (اسرائيل).
أما يهود الدونمة فغالبيتهم من يهود الأندلس الذين هربوا إلى تركيا بعد سقوط الدولة العربية، وأعلنوا إسلامهم شكلا، في حين ظلوا على ديانتهم اليهودية، وشكلوا ولا يزالون مفاتيح الحكم التركي بكل تلاوينه، العلمانية والإسلامية.
وإلى جانب اليهود الأتراك المذكورين، الخزر والدونمة، ثمة ما يقال عن يهود خيبر واندماجهم في قبائل نافذة في نجد وغيرها من مناطق الجزيرة والخليج. - ومن الإسرائيليات الأخرى التي تقوم على تمزيق الهلال الخصيب العديد من القوى الطائفية في أوساط تعكس التحليلات الدقيقة للمفكر اللبناني اليساري، مهدي عامل، والتي ترى في (الطائفية عموما) تعبيرا عن الرأسمالية الكولونيالية وتبعيتها العضوية للمراكز الإمبريالية، ولا تكتفي هذه القوى بتعميق التناحر الطائفي وصولا للخرائط والهويات الكانتونات المتناثرة، بل تلعب أيضا دورا خطيرا ضد جماعات المؤمنين التي تقاتل الإمبرياليين والصهاينة والرجعية أو تأخذ موقفا سياسيا ضدهم.
- ولا تنحصر (الإسرائيليات العربية، يهود الداخل حسب تعبير انطون سعادة) على الجماعات الطائفية، فالعديد من الجماعات الإقليمية وأصحاب (الهويات القاتلة) المماثلة صورة أخرى عن هذه الإسرائيليات، وكذلك قوى التبعية التي ترتبط بالعدو بعلاقات سياسية وثيقة، علنية وسرية.
- من (الإسرائيليات) الأخرى، حركات الانفصال التي ما أن تنجح في الانفصال أو تخوض غماره، حتى تكشف كل تاريخها السري السابق مع العدو الصهيوني ودوره في رعاية هذا الانفصال.
وتمتد هذه الحركات من الأوساط المتصهينة داخل الحركة الكردية إلى الإسرائيليات (السوداء) كما قي جنوب السودان وظواهر أخرى. - أخيرا ثمة (إسرائيليات ثقافية) تتجلى في مظاهر وتعبيرات عديدة، من تسويق التطبيع وتبني الرواية الإسرائيلية للصراع العربي- الصهيوني، إلى استلهام ما يسمى (بالتراث التوراتي) المسروق أصلا من تراث الشرق الفرعوني والآرامي والبابلي والكنعاني، فمقابل توظيفات الشعراء: السياب للأساطير التموزية وأدونيس والمناصرة للتراث السوري – الكنعاني، وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور للتراث الفرعوني والمصري القديم، ومحمد الفيتوري لطبول افريقيا، ومقابل توظيف روائيين مثل الطيب صالح والكوني وتاج السر لتراث شمال وصحراء أفريقيا، ثمة من استغرقته المزامير ونشيد الانشاد والمراثي التوراتية.