يجلس المرء أحيانًا متأملًا تاريخ هذا المشرق أو الهلال الخصيب والأحداث الهائلة التي مرت على هذه البقعة من الأرض، والتي كانت حبلى بأحداث باهرة على الصعيد العلمي الفلسفي والعمراني، وكذلك بموجات من الغزوات والحروب والغزوات المضادة والتي زهقت فيها أرواح كثيرة وشهدت صعود إمبراطوريات وسقوط أخرى، وانتصار دول واندحار أخرى، وانتشار ديانات على أنقاض ديانات أخرى في أجواء مشحونة بالعنف الديني والإثني والشهوة الى التسلط، وقد ارتوت هذه الأرض حتى الثمالة من دماء الأبرياء والمتصارعين وما زالت حتى يومنا كأنها دوامة من العبث اللامتناهي …!
في خضم تلك الأحداث العصيبة وفي لحظة مفصلية من مجرى الزمن، كان هذا المشرق على موعد مع مخاض لولادة تاريخ جديد عنوانه الخروج
من الفوضى الى الوضوح، من الضلال الى الهداية ومن عبودية الأفكار العتيقة الى حرية المعرفة وقوتها.
إذ وسط هذه المتاهة من الصراعات العنيفة ومن لجة الليل السحيقة انبثق شعاع فجر جديد شمسه الحرية، والنظام قائده، جيشه الواجب والقوة رايته…
ولم تكن حدثًا عاديًا تلك الولادة، إذ أنها أزالت غشاوة قرون من الفوضى الفكرية واعتلال المفاهيم، وأوقفت شعوب هذه الأرض المثخنة بالجراح وجهًا لوجه أمام حقيقتهم الضائعة تحت طيات تاريخ هائل من التطاحن والعراك باعد بين مكونات هذا الشعب وشحن النفوس بالكراهية الدينية والطائفية والعرقية، وعمق الانقسام
الى درجة أضحى الأمل معدومًا من إمكانية لملمة هذا التبعثر، غير أن المبادئ الجديدة استطاعت أن تصهر كل تلك المفاهيم المتضاربة وأن توحّد فئات كبيرة من الشعب على أسس صلبة لأول مرة في التاريخ!
إلا أنّ فجر التعاليم الجديدة الموحّدة لهذا الشعب قد بسط نوره على هذه الأرجاء لردح قليل من الزمن، ومن ثم راح ذاك الشعاع رويدًا رويدًا يتقهقر أمام جحافل الظلام التي عادت لتسود في هذه الأرض وتتعالى جعجعة العراك بين مكونات الشعب وتطغى فوضى المفاهيم من جديد…!
إزاء هذه الدوامة من العبث والموجات الارتدادية من الفوضى اللامتناهية يجهد العقل في الإجابة على سؤال يؤرقه: ما هو سبب العبث هذا وهل من علاج له؟
الحالة العبثية تشكل مرضًا عضالًا يقوّض الحياة الإنسانية ولا شفاء لها منه سوى بالأخلاق الصلبة والمثل العليا، وما الإبتلاء العظيم الذي تعاني منه بلادنا إلا بسبب بلبلة المفاهيم وفقدان المناقب وانعدام العقلية الأخلاقية الجديدة!
كما الجاذبية شرط أساسي لثبات الإنسان والمخلوقات على الأرض كذلك الأخلاق شرط لبقاء النوع البشري على هذا الكوكب، وإلا تحولت الحياة لدوامة عبثية لا انتصار فيها للمبادئ والحق كقيم إنسانية عليا، ويضمحل المعنى الأرقى لمطلق مجتمع إنساني بالبقاء…!
إنّ نكث الإنسان بعهوده تجاه المجتمع والمجموع وتفلته من الضوابط الأخلاقية وضربه بعرض الحائط للمبادئ الوطنية العليا وتغليبه مصالحه الشخصية على حساب مصلحة المجتمع والوطن، يولد حالة من العبثية القاتلة تهيئ لدوامة من الصراع المدمر لمستقبل الأمة، وهذه معضلة يدفع الوطن ثمنها فقدانًا لسيادته، وانحطاطً في المفاهيم الوطنية والمناقبية، ونزيفًا مستمرًا في ثرواته البشرية والطبيعية، وخضوعًا مذلًا ومهينًا لسيادة الأمم الطامعة فيه!
في هذه الحال يلح علينا سؤال مهم:
“متى” الخروج وليس “كيف” الخروج من دوامة العبث تلك، لأننا بالبحث والتأمل توصلنا الى أن فقدان الأخلاق والمبادئ هو السبب في الحالة العبثية التي تجلب الويل تلو الويل على الوطن، ولذلك كان السؤال متى يأتي الوقت الذي يصغي فيه الناس الى صوت الضمير والعقل؟!! متى سيصل الناس الى وقت يفرحون بهذا الوجود وهذه الحياة بغير أحقاد ولاطمع أوكراهية؟!! متى سيبزغ ذاك الفجر الحامل راية الحق والعدل والمساواة لهذه الأرض المنكوبة بجهلها؟!!
متى سيدرك هذا الإنسان المعذب بغبائه أنه إنسان ذو عقل وضمير وأخلاق وقيم جميلة وليس كتلة من قبح وأنانية وكراهية وطمع؟!!
متى سيعي هذا الإنسان أنه عدو نفسه وعدو الله الذي خُيِّل اليه أنه يعبده وهو بالحقيقة لا يعبد سوى ذاته حين يغلق أبواب قلبه بوجه ترانيم المحبة ويوصد نوافذ عقله أمام صوت المنطق؟!!
متى سيخجل هذا الإنسان من النكث بقسمه والخروج عن المبادئ والسقوط الأخلاقي المدوي؟!!
متى سيتوقف هذا الإنسان عن محاربته وتنكره المستمرين للأفكار العظيمة التي جاء بها نوابغ عظام من بلاده؟!!
متى سيغدو للحق مكان في هذه الأرض وللنظام احترام وللمبادئ انتصار؟!!
تتوقف دوامة العبث هذه حين نسمع جوابًا على ال “متى” تلك ويصبح للحياة معنى أرقى وشكل أجمل …