قراءة تاريخيّة في نشوء الطّائفيّة اللبنانيّة

“سنحاول في هذا المقال أن نقرأ -وجود- الطائفية و كيفية تفاعلها، بشكل إجتماعي وإقتصادي. كما أننا سنجيب عن تسأول: هل الطائفية بحد ذاتها هي المسار الغالب والمحدد للمسار اللبناني، أم أن هناك تداخلات أعمق؟ وكيف بدأت الطائفية تتخذ شكلها المؤسساتي للتعبير عن نفسها أو عن مصالحها؟”

عند النظر لمسار الطَّائفية، يغلب على معظم القراءات العربية واللبنانية روايتين مختلفتين. إحداهمها تراها عيبًا لأنها تشكل شكلًا من أشكال التَّعصب دون الولاء للوطن، والأخرى تعتبرها نتاج للسلطة السياسيّة (أو للقوى الإستعماريّة) التي تقسّم النّاس بأشكال مختلفة تمكنها من إعادة إنتاج نفسها.

قد يمكننا بالإعتماد على هذين السِّياقين وبخاصة بوحي عدد من الأحداث الطائفية العربيّة أن نقترح الآتي:

“في مسألة طائفية أو عرقية أو إثنية، إذا كان هناك تفاوت بعلاقة واحدة من الجماعات أو سواها، بالسُّلطة السّياسية (كانت الأكثر تمثيلًا)، أو بالسُّلطة العسكريّة (وجود جماعة على حساب جماعة-البحرين مثلًا-)، أو بالموارد الاقتصاديّة (يمكن ربطها بالتوزيع المناطقي للأعراق والطوائف)، أو حتى بالنظام التعليمي؛ تتداخل الجماعات مع الاقتصاد والسلطة السّياسيّة، أو مع رأس المال الإجتماعي أو الثقافي، فنتنتج صراعات داخلية من السهل أن تتحول لحروب طائفيّة.”  

يُشكل هذا الإستنتاج مدخلًا لفترة جوهريّة بالتّاريخ اللبناني في أوائل القرن التاسع عشر-عام 1920 تحديدًا- عندما حدثت سلسلة إنتفاضات «عاميّة» والعامّة هم كل من ليسوا مناصب، أو لا يملكون ألقاباً عثمانيّة: “شيخ، أمير، مقدم… ” فهم قد يملكون المال ولكن لا يملكون الجاه- ووصلت ذروتها عام 1858 عند عودة «المقاطعجيّة» الدروز من حوران، بعد سقوط الحكم المصري وتخلصهم من الأمير بشير الذي وزّع أراضي على المسيحيين بغيابهم، فطالبوا بحصتهم من الأراضي والضرائب.

ما أنتج نوع من التعارض بالمصالح أخذ طابعًا هجوميًا مسلحًا درزيًا -بعد أن كانت القوى المسلحة المسيحية قد هاجمت بقيادة البطرق فترة 1841-1845 المختارة- فحصلت حرب أهليّة مصغرة صيف عام 1858. ما يهمنا في هذه الفترة تحديدًا أن نجيب عن تساؤل عرضيّ قد يطرحه القارئ مفاده: “كيف وصلنا إلى أكثرية مسيحية بوجود أعيان دروز؟” بشكل اقتصادي-اجتماعي بعيد عن عدميّة القراءة الطائفية للواقع اللبناني.

يرجع جواب هذا التساؤل إلى فترة الإمارة المعنيّة عندما إرتبط جبل لبنان باقتصاد الحرير (وهو ارتباط مبكر، ربط جبل لبنان بالمدن الإيطاليّة -عند لجوء فخرالدين إلى توسكانا “المركزي التّجاري) والطبيعة الاقتصادية لحكام لبنان “التُّجار” -ليس فقط المقاطعجيين- المُرتبطين برجال دين -أغلبهم مسيحيون- الذين تولوا مهمة نقل أموالهم إلى المصارف الخارجيّة في تلك الفترة.

فاستقدمت الأسر “المقاطعجيّة” الدرزية -يُجيب غضبان أبو شقرا أن الدروز فضلوا العمل العسكري على العمل الزراعي والحرفي-، مسيحيي شمال الجبل لزراعة الأراضي -الحرير تحديدًا- فتكوّنت أكثرية  مسيحية متنامية ضمن أقليّة درزية  في الأراضي الممتدة من شمال عاليه حتّى جنوب جزين (كان يمكن قسم كل ١٠،٠٠٠ عامل بمعدل ٨٠٠٠ مسيحي و ٢٠٠٠ درزي..)

الوجه الآخر لهذا الاقتصاد -وهو الأهم- «ترسمل» قسم كبير من اللبنانيين وإرتباطهم بالسّوق الأوروبي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص (استيراد وتصدير). فشكل تقسيم العمل بين الجماعات منعطفًا هامًا، حيث أوجد جماعة اقتصر دورها على الزّراعة والعمل الحرفي، وجماعة تزايد دورها بالملكيّة الزّراعية الصغيرة، ويلعب قسم منها دور وكلاء المسيطرين على الأراضي -لم يكونوا ملّاكًا للأراضي، ومقاتلين -إمتياز حمل السّلاح أُعطي لحاكم الإمارة ومنه إلى المقاطعجي الذي يملك حق تشكيل جيش «فهو قاضي، ومسيطر على الأرض وقائد جيش وجابي ضرائب».

فتحولت الجيوش إلى”ميلشيات” إلى أن أتى إبراهيم باشا تحت الحكم المصري وكسر “الإحتكار” الدرزي للسلاح بتسليح المسيحيين أيام الأمير بشير «ما شكل دور كبير بتنظيم كتلتين مسلحتين وتنظيم هجوم من مقاتلين مسيحيين ضد المناطق الدرزية -حيث كان من السهل أن يأخذ القتال طابع مسيحي- درزي».

الأمر المغيّب في هذه السرديّة، هو مرافقة هذه الأحداث الداخليّة بدء الإهتمام الغربي بالسلطنة العثمانية. خصوصًا عندما أتمّ نابليون الثالث احتلال الجزائر وطرح فكرة “الإمارة العربية” تحت لواء فرنسا، ونقل هذه الفكرة إلى السلطنة العثمانية عبر الأمير عبد القادر الجزائري -الذي لم يقبل المشروع- إلا أنّ هذا كان بداية الاهتمام الفرنسي بسورية. (من الطرف التاريخية هو تأليف نابليون الثالث نشيد “ذاهبون إلى سورية” الذي يتكلم عن مقاتل فرنسي صليبي فقير يذهب إلى فلسطين ويعجب به اللورد ويزوجه إبنته –من كلمات زوجة نابليون الثالث- وقد عزف هذا النشيد له بعد هزيمته أمام الألمان).

كما رافق هذه الفترة الإهتمام بسكك الحديد، السدود، قنوات الريّ، المعابر المائية وعلى رأسها قناة السويس. أما في لبنان، فبدأ نمو «الإنتاج الكولونيالي» للمنتوج الأوحد “الحرير” في القسم الأكبر من جبل لبنان والذي يتم تصديره لمدينة وحيدة “ليون”.

الأهم هو تدخل الجيش الفرنسي عام 1860 بمهمة أصليّة وهي الذهاب إلى الشّام لحماية مسيحيي دمشق من المجزرة بحقهم. فيُمنع من الوصول إليها من السلطنة العثمانية، وتتحول مهمته إلى دور محدود في لبنان يتلخص بالسّماح بعودة المسيحيين اللبنانيين إلى أعمالهم وأراضيهم.

والأهم من ذلك، ضمن محاولات تقييد لنابليون الثالث من قبل السلطنة العثمانية والإنكليز تنمو لديه فكرة إحتلال سورية، فأرسل بعثة أركولوجية لدراسة المنطقة –يصف ماركس نابليون الثالث الطامح إلى احتلال سورية بأنه نسخة كاريكاتورية عن الأول الذي إحتل مصر-

المهم، أنه بناء على مجيء القوات الفرنسية، انعقد إتفاق سياسي عثماني-فرنسي أنتج المتصرفية وهي منطقة في جبل لبنان بمستوى سنجق -قضاء- تتمتع باستقلال نسبي ضمن الأراضي العثمانية حيث لا يتواجد بداخلها الجيش العثماني بل تتولى مهمة حفظ الأمن قوات من “الدرك” يقوم الضباط الفرنسيين بتدربيهم.

 كما اعتمد لأول مرة في تاريخ السلطنة العثمانية مبدأ انتخابي بحيث كل قرية وبلدة من قرى جبل لبنان الممتد من شمال البترون وصولًا إلى نهاية جزين “جبل عامل” يحكمها حاكم عثماني مسيحي يعاونه مجلس إدارة -كان للمجلس صلاحية الميزانيّة وإستقدام جيش عثماني- قسم لأول مرة على أساس التمثيل المذهبي مع أكثرية للمسيحيين. وهكذا نشأ النظام المذهبي-الطائفي اللبناني.

نجد بالعرض التاريخي في مسار حياة البلد، أن الوعي الذّاتي على وجود الطّائفة موجود. ولكن، المحطّات المؤسّسة لإمكانية وجوده محكومة بعمليات مصحليّة -توزيع ثروة و “نفوذ”- إلى جانب العوامل الطائفيّة. أيّ أنه لا يمكن عزل فكرة الصراعات الطائفيّة عن المصالح أو ربما لا يمكن مقاربتها إلا من خلال هذا الباب. لذلك لا بدّ من إزالة الفوارق التي يمكن رعايتها “كتمييز”.

وقد أثبتت طبيعة النظام اللبناني المعطل ذاتيًا بشعارات الكوتا الطائفية أنه غير مخوّل لإزالة هذه التمييزات بهدف التماس فكرة العدالة الاجتماعية، ما عوّم أهمية النضال السياسي من خلال الأحزاب والنقابات كأداة تنفيذ ضروريّة متسلحة بالعقيدة اللازمة والإرادة الصلبة سيّما بوجه المجموعات وال NGO’S   أصحاب “بشارة” التغيير دون خطة سياسيّة واضحة ربما لأنه لا تناقض جذري يينها وبين أركان ومصالح النظام اللبناني.