حلمُ الدولة العصرية

الشعب بكل أطيافه يطالب بالتغيير وإسقاط الأنظمة الفاسدة ويحلم بقيام دولة عصرية راقية ترعى حقوق المواطنين ومصالحهم وترفع من مستوى حياتهم وتؤمن لهم مقومات الحياة الشريفة. ولكن كيف لهذه المطالب ان تتحقق بوجود حماة الأنظمة الطائفية المُفلِسة، من قوى وأحزاب طائفية ومن سياسيين فاسدين، نفعيين، ومتآمرين على الشعب يتوارثون مناصبهم ويتقاسمون الحصص والمكاسب، وتاريخهم مليء بالفساد والنهب والإجرام والتلاعب بمقدرات الشعب؟

كيف لهذه المطالب ان تتحقق والشعب غارق في مستنقعات الجهل والعصبيات المذهبية، ومسجون في معتقلات الخوف والتقوقع والانعزال وتسيطر عليه مشاعر التطرف والاستعلاء والكراهية لذوات الأخرين من أبناء الطوائف الأخرى؟ 

والسؤال البديهي: كيف نخرج من هذا الواقع المأساوي ونعبر إلى الأمام، إلى الدولة العصرية، القوية، الراقية: دولة الحرية والقوة والنظام والعدالة والمساواة.. دولة المواطنة التي يتساوى فيها المواطنون امام القانون المدني الواحد.. دولة الجيش القوي الذي يصون سيادة البلاد ويحافظ على أمنها وسلامتها.. ودولة الاقتصاد المنتج الذي يحقق نهضة صناعية – زراعية- اقتصادية و”يجعل مجموع الشعب في حالة خير وبحبوحة فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم.”؟[i]

للعبور إلى الدولة العصرية لا بد من الإحاطة بطبيعة المشكلات والأزمات التي يعاني منها مجتمعنا ومعالجتها بوضع الدراسات والحلول الناجعة لها، ولا بد ايضاً من محاربة عوامل تخلف المجتمع بتوليد الوعي الصحيح لحقيقة وجودنا، لهويتنا الواحدة ولوحدة الحياة والمصالح التي تجمعنا على اختلاف طوائفنا ومذاهبنا.

والحق نقول إنه لا يمكننا ان نحارب الجهل والعصبيات الطائفية والثقافات الظلامية وكل أشكال الفساد والانحطاط بالعقائد الزائفة، المهترئة، وبالإعلام الطائفي وبالتحريض والاعتباطية والخطابات الكاذبة.. بل نقضي على كل هذه الظواهر الرجعية بالفكر الراقي والعقيدة الواضحة والكلام العقلاني وبالثقافة الصحيحة القائمة على المحبة والتسامح والحوار والانفتاح والمرتكزة على العلم والمعرفة والعقول النيّرة.. نقضي عليها بالمبادئ الصحيحة والتربية القومية وبالصراع الدؤوب والمواجهة الفاعلة على كل الجبهات وبالأعمال المفيدة التي تساهم في وحدة المجتمع وتقدمه.. ونقضي عليها بنشر ثقافة الإخاء والتعاون والبناء والإنشاء، ثقافة النهوض والحياة الطامحة إلى التفوق والإبداع، والهادفة إلى قيامة المجتمع ورقيه وتحقيق الوعي فيه من خلال نهضة شاملة ومتواصلة نحو الأرقى والأجمل..

وهذه هي مهمة المتنورين والنهضويين الصالحين، أبناء النور والمعرفة، المتسلحين بالوعي القومي السليم وبالثقافة القومية الجامعة.

انها مهمة رسولية حقة لكل الطامحين بإنشاء دولة عصرية ومجتمع مثالي ينعم في سعادة كاملة وشاملة تغمر الشعب بأسره.


[i] سعاده المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 152.

د. ادمون ملحم