الانغلاق الفكري

النهضة السورية القومية الاجتماعية تقول بالاستقلال الفكري- الروحي المنزّه عن التأثيرات الغريبة وتدعو للتفاعل الخلّاق مع الذات السورية وفهم حقيقتها ومزاياها الإبداعية من خلال العودة إلى التاريخ السوري الثقافي الحافل بالمنجزات الحضارية وإلى جوهر الأمة ونفسيتها الحقيقية الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي سيرها وأعمالها ومآثرها الثقافية.[1] وفي المبدأ الأساسي السابع، يؤكد سعاده على غنى التراث السوري وعلى مقدرة النفسية السورية ومؤهلاتها واستكمالها شروط الوعي الصحيح والادراك الصحيح معتبراً “ان في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم.”[2]

دعوة سعاده الصريحة إلى النهوض القومي باعتماد طريق الإستقلال الفكري-الروحي، لا تعني القول بالإنعزال ورفض كل ما هو خارجي. فسعاده نفسه يوضح في الشرح أن “الاستقلال الفكري والشعوري – النفسي لا يعني مطلقاً الانعزال عن العالم او الانعزال عن التفاعل مع العالم.”[3]

ما يدفعنا إلى تناول هذا الموضوع هو موقف بعض المحدودين بفهمهم لأسس النهضة والمُتَغَنّين، تكراراً، بأقوال سعاده دونما استيعاب عميق لمضامينها. هؤلاء يعتبرون أنفسهم قيّمين على العقيدة فيهاجمون أي كاتب يتجرأ على ذكر مفكر أجنبي أو الاستشهاد بمقولاته معتبرين أن هذا الاقتباس هو خروج عقائدي وجريمة لا تغتفر. ويمكن القول، إن “ميزة” هؤلاء هي مواقفهم الحادة وطريقة تفكيرهم المتصلبة، أو بالأحرى هي فكرهم المنغلق. فهُم عطّلوا العقل الذي ميّزهم الله به عن سائر المخلوقات وأرادوه مقيّدا ومشلولاً. وهُمْ بذلك يثبتون أنهم غير مستعدين للإستفادة من التطور والمعارف وحقائق العلوم.

يضاف إلى هؤلاء المحدودين المصابين بالإنغلاق أو الجمود الفكري، وجود بعض الأشخاص الموتورين والمصابين بالنزعة الفردية والإدّعاء المُغالي بعمق معرفتهم وثقافتهم.. هؤلاء يعتقدون أنهم ملوك الفهم والإدراك والقابضون على “الحقيقة المطلقة” ولديهم الجواب لكل سؤال، لذلك يميلون إلى فرض آرائهم ورفض آراء الآخرين زاعمين أن أفكارهم وحدها الصحيحة، وما ذلك إلا من تداعيات الغرور أو الجهل وما شابههما. ويخال هؤلاء أيضاً أن بإمكانهم محاسبة الآخرين وإطلاق الأحكام عليهم واتهامهم بالكفر والإنحراف والحنث باليمين وغيرها من الاتهامات الباطلة، تحت ستار الادعاء بالتزامهم منهجيةَ سعاده في التعيين والوضوح، لكنهم في حقيقة الأمر بعيدون عن الوضوح ولا ترى في كلامهم إلا التخبط والتناقض والتزييف والميل إلى المغالاة القطعية.  يدّعون انهم يصوّبون “الإنحراف”، ولكن عندما تقرأ مطّولاتهم، لا تجد إلا التشويش والانحراف بعينهما. ونحن نسأل، من قال إن آراءكم هي القول الفصل؟ ومن عيّنكم لتكونوا مرجعية عقائدية ومحكمة حزبية مخوّلة بوضع مضبطة إتّهام للآخرين؟

الحق يقال، أن هؤلاء الأشخاص، المحدودين منهم والمغرورين، يرتكبون جرائم بحق العقيدة القومية الاجتماعية وواضِعِها، وبحق الفكر والعقل والابداع لأنهم لا يفقهون أن مدرسة سعاده لا تؤمن بالجمود والخنوع والكسل، بل بالتجدّد والخلق والحياة الجديدة التي لا تتوقف عن النمو والتطور. وهي ليست مدرسة طقسية، انطوائية، تدعو إلى الانغلاق والتقوقع على الذات وتقديس الشعارات، بل هي مدرسة قومية اجتماعية تؤمن بالإبداع والمعرفة الفاضلة والعقل الخلّاق، عقلِ الإنسان الجديد المنتمي إلى مجتمعه الحضاري والمتشبث بهويته القومية والمعتّز بتاريخ أمته وبما أعطته من عطاءات فكرية واكتشافات عملية وفلسفات اجتماعية وشرائع تمدنية وغيرها من المآثر الثقافية العظيمة التي تظهر حقيقة نفسيتنا المتفوقة، الجميلة من دون محاولة إلغاء الآخَرين الذين أسهموا في الإبداعات الإنسانية. وهذا الإنسان الجديد لا يقدّس الحرف ولا يتصرف كالببغاء التي تردد الأقوال جاهلة روحها وجوهرها، بل ينطلق من المبادئ التي “هي قواعد انطلاق الفكر”[4]، فيتشوّق بعقله المنفتح لمعرفة الجديد ويغوص على الفكر الفلسفي ويُبدع ويشارك في تظهير ما بقي مضمراً في عقل سعاده ووجدانه، مرتفعاً إلى أعلى مراتب السمو وهذا ما تطمح إليه نهضتنا القومية الاجتماعية المنبثقة “من النفس السورية التي تبعث، مع الأجيال، نوابغَ يأتون الخوارق والمعجزات.”[5]

ومدرسة سعاده هي مدرسة قومية إجتماعية ذات طابَع إنساني غايته المساهمة في اصلاح المجتمعات الإنسانية وترقيتها. لذلك يقول سعاده: “إن نهضتنا القومية الاجتماعية ليست لإشباع بعض رغبات مستعجلة وبعض خصوصيات شعبنا المحدودة، بل لإعادة النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته.”[6] فهل اصلاح المجتمع الإنساني وترقيته يتمّان بالإنعزال عن العالم وبعدم الإطلاع على مفكريه ونظرياتهم؟

سعاده آمن بحرية الفكر وبالعقل والعلم ولم يكن متعصباً ضد الثقافات الأجنبية وآدابها وفنونها ومعارفها. ولم يكن من دعاة التقوقع على النفس والانكفاء على الذات والانغلاق المطلق. بل آمن بالتفاعل الحضاري وبالإنفتاح على ثقافات العالم وعلى قبول وإحترام وجود المجتمعات وحرياتها وخصوصياتها، ورفض الصراعات المهلكة في العالم مؤكداً انها صراعات مميتة ومؤدّية إلى الهلاك و”إنّ المجتمع السوري لا يمكنه أن ينتظر وأن يقف جامداً تجاه مشاكل المجتمع والإنسانية..”[7] لذلك دعا إلى تحويل الصراع المميت “إلى تفاعل متجانس يُحْيــي ويعمر، ويرفع الثقافة ويُسيّر الحياة نحو أرفع مستوى.”[8] فهل دعوة سعاده إلى التفاعل المتجانس الذي يحيي ويعمر ويرفع الثقافة، نترجمها بالتقوقع والإنكماش والانعزال؟

لقد أكد سعادة، بتفكيره الجديد ونظرته الشاملة إلى الحياة والكون والفن، على دور التفكير السوري الإبداعي الحضاري بترقية الثقافة وبتسيير الحياة نحو أرفع مرتبة معلناً: “إنّ الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادىء المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة.”[9] وهذه القاعدة تقدمها الفلسفة المدرحية الجديدة “القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً.”[10]هذه القاعدة ترتكز على العلم والمعرفة الصحيحة وعلى وجدان الإنسان – المجتمع وعقله الواعي، المتحرر، الذي يتيح له أن يمزقَ الحُجُب ويكتشفَ نواميس الحياة الإجتماعية وأن يخرجَ من ظلمات التخلف والجهل والإنحطاط ومن عالم الأوهام والخوارق وفوضى النظريات الغامضة والمفاهيم المبلبلة في تعيين الحقائق إلى حالة الوضوح والجلاء واليقين، حالة التفكير الصحيح والوصول إلى معرفة الحقائق الإنسانية التي تؤدي إلى وضع الحلول الناجعة لمشكلات المجتمعات الإنسانية وخطط النهوض الراقية التي تطلق المواهب الخيّرة والعقول النيّرة التي تفعل في الوجود ثقافة وإنتاجاً وخيراً وتمَدُّناً والتي تنتج المعارف الجديدة في شتى الميادين فتساهم في إغناء فكر الإنسانية وتدعو الشعوب لنبذ التخاصم والتصادم والاقتتال ولتجنب الحروب والكوارث والويلات واعتماد ثقافة التفاعل الحضاري: تفاعل الثقافات والمعارف والتجارب والخبرات من أجل إشادة عالم حضاري جديد يقوم على ثقافة الخير والحق والعدل والتعاون والتواصل والتفاهم والوئام بين الأمم واحترام حرياتها وسيادتها.

بعض المحدودين بتفكيرهم لا يتورعون عن إطلاق الاتهامات الباطلة بحق أي كاتب نهضوي يتجرأ على ذكر مفكر أو فيلسوف وطني كناصيف نصار أو أجنبي كرينه ديكارت أو إميل دوركاهيم، او إيمانويل كانط أو جان جاك روسو، أو أي مفكر آخر. فهل يدرك هؤلاء أن سعاده ناقش أفكار فلاسفة وعلماء وكتّاب من جنسيات مختلفة واستفاد من أفكارهم؟ هل يَعلمون أن سعاده وضع كتابه “نشوء الأمم” بعد اطلاعه على أفكار ونظريات كبار المفكرين الفرنسيين والإلمان والإنكليز وغيرهم بشهادة المراجع المُثْبتة في خاتمة الكتاب؟ أيعلم هؤلاء أن سعاده في الفصل الثالث (الأرض وجغرافيتها) من هذا الكتاب، استفاد من كتابات باحث عظيم هو “وويدال دلا بلاش” Vidal De La Blache. مؤسس المدرسة الفرنسية الحديثة للجغرافيا الذي قام بتدريب جيل من الجغرافيين الفرنسيين البارزين في وقتنا الحاضر؟

أيدرك دُعاة الحرْفية العقيمة، أن سعاده في الفصل الرابع (الاجتماع البشري)، استفاد واقتبس من أفكار علماء وباحثين أجانب أمثال: وينرت (Weiner)، كبرس (Kappers)، تايلور (Taylor)، هرتس (Hertz)، وليغوي (Legewie)؟

هل يَعلم المعترضون على الاستشهاد بمفكرين أجانب بحجة “الدفاع” عن قوميتنا، أن سعاده استشهد بعدد كبير من علماء الغرب في كل فصول كتابه من أوله إلى آخره؟ هل يَعلمون ان سعاده بنى تعريفه للأمة على مفهوم للمتحد أحسَنَ مكيور اختياره (R.M. MaCiver) الذي كان أستاذا بارزاً في الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع في جامعة كولومبيا؟ وهل يَعلمون أنه وافق العالم الإيطالي بسكال منتشيني Pascal Mancini في تعريفه للأمة بأنها “مجتمع طبيعي” من الناس؟ وأنه ناقش تعريف م. أيوانوف للأمة باحترامٍ منهجي منفتح؟

وهل يَعلمون أن سعاده أشاد في مقدمة “نشوء الأمم” بالمؤرخ والفيلسوف الاجتماع “ابن خلدون” الذي وضع في مقدمة تاريخه المشهور أساسَ علمِ الاجتماع في اللغة العربية؟ والجدير بالذكر، أن ابن خلدون الذي نال إعجاب المُفّكّرين الغربيين وتقديرهم، ليس سوري الجنسية، بل وُلدَ في تونس في أسرة أندلسية وأمضى شيخوخته في مصر ومات فيها.

وهل يعلم المتشرنقون في قوالب الألفاظ أن سعاده في معرض كلامه عن الموسيقى جاء على ذكر الموسيقي الخالد “بيتهوفن” الذي “بلغ في الفن الموسيقي حدّ الألوهية، لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة؟”[11] كما جاء أيضاً على ذكر الموسيقي الإلماني المبدع “فاغنر” الذي اعتبره “شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية”[12]، كما اعتبره “موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبّرة عن نظرة إلى الحياة عالية جداً.”[13]

سعاده، يا مَنْ أغلقوا مجالهم الفكري دون الآفاق، دعا إلى تحرير الأمة من قيود الخمول والسكون والجمود وثار على التقاليد الرثة التي تقيّد نفوسنا وتعرقل تقدمنا وتمنع عقليتنا من النمو وتجعلنا عاجزين عن تحقيق ما قد نرى فيه مطلباً أعلى جميلاً. والحق نقول، إن تحرير الأمة من قيود السكون والجمود لا يكون بالتحجر الفكري وبتقيّيد عقولنا في قوالب حديدية، بل يحصل بالمعرفة والعلم والخلق والإبداع وإعلاء شأن قوة الفكر. سعاده آمن بحرية الفكر وقال ان “الحقيقة والمعرفة الصحيحة تظهران بالبحث الحرّ لا باضطهاد حرية الفكر.”[14]

ختاماً، ندعو المؤمنين بمنارة العقل المُصَنّف عندنا شرعاً أعلى، أن يؤكدوا على الدوام، بالعلم والمعرفة المُنافِيَيْن للإنسداد الذهني، انفتاحَهم الطبيعي على الإنتاج الفذ الذي أسهمَ، بالفكر العقلاني، في تَقَدُّم البشرية وازدهارها. فالتفكير، كما يقول سعاده، “مظهر من مظاهر الحياة الراقية لأنه العمل الأساسي للعقل البشري.”[15]

رئيس الندوة الثقافية الدكتور ادمون ملحم


[1] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 105-106.

[2] المرجع ذاته، ص 108.

[3] المرجع ذاته، ص 110.

[4] المرجع ذاته، ص 16.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة – الرسائل، المجلد التاسع 1926 – 1940، رسالة إلى إبراهيم حبيب طنوس تاريخ 22/07/1939.

[6] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع 1940 – 1941، ملخص خطبة الزعيم في أول مارس، 27/04/1940.

[7] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 1، 1/3/1948.

[8] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع 1940 – 1941، ملخص خطبة الزعيم في أول مارس، 27/04/1940.

[9] المرجع ذاته.

[10] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، ص 53.

[11] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، تجديد الأدب وتجديد الحياة، ص 34.

[12] المرجع ذاته، ص 40.

[13] المرجع ذاته.

[14] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، مشكلة الحرية تحلّ بالحرية، 14/04/1949.

[15] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول 1921 – 1934، “التفكير العملي والاصلاح الاجتماعي”، 1/04/1933