الثّقافة هي معركة دائمة وطريقها لا نهاية له. وبالأمس شاهدنا جولة راقية من جولات الثّقافة الرّفيعة الأصليّة في حفل إعلان نتائج جائزة أنطون سعاده الأدبيّة الّذي أقامته عُمدة الثّقافة والفنون الجميلة في الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ، في مسرح المدينة في بيروت حيث أُلقيت خلاله كلمات راقية بعثت فينا الأمل بإحياء الفعل الثّقافيّ التّنويريّ وبعودة الإبداع الفكريّ والأدبيّ في زمنٍ سيطر فيه الرّكود الثّقافيّ والخمول الفكريّ والمعرفة السّطحيّة المُبتذلة ونَضُبَ الفكر في معظم مجالات الثّقافة.
الثّقافة الرّفيعة هي فعل تنويريّ وتغييريّ في حياة الأفراد والمجتمع وكم نحتاج إلى هذا الفعل النّهضويّ في مواجهة التّحدّيات الرّاهنة، تحدّيات الدّاخل الّتي تشمل معظم جوانب حياتنا وتحدّيات الخارج الّتي تُحيط بنا من كلّ جانب.
والثّقافة الأصليّة هي فعل أمل وتفاؤل ورجاء بمستقبل مشرق للأمّة بعد أن غابت عنها الأحلام والأماني الجميلة وحلَّ فيها الجهل والظّلام والانحطاط. وهي فعل إيمان في زمن اليأس وفقدان الثّقة بالنّفس لأنّها تُقوّي فينا العزم والإرادة وتنمّي مواهبنا وتحفِّزُنا على الخلق والعطاء والإبداع والإشعاع وتدفعنا للنّضال ضدّ القهر والتّصدي لصنوف الظّلم والعدوان وللنّهوض من واقع التّردّي والانحطاط.
والثّقافة الأصليّة هي ثقافة ملتزمة بقضايا المجتمع وحاجاته وهي ضرورة ماسّة لوحدة المجتمع وتقدّمه. فهي تعالج أمراضه وسلبيّاته وتتصدّى لآفاته وأوضاعه المتردّية وتُعرّي ما ينخر فيه من مماحكات ونزاعات وما يضرُّ بمصالحه من اتّجاهات تعصّبيّة وفئويّات خصوصيّة ونزعات فرديّة رعناء.
والثّقافة النّهضويّة هي ثقافة جادّة تُعبِّرُ عن التّراث والهويّة والعصبيّة القوميّة وهي وسيلتنا الفعّالة للمحافظة على هذا التّراث وعلى هويّتنا القوميّة. وهي تقودنا إلى المعرفة الصّحيحة وإلى بناء مجتمع المعرفة – المعرفة الّتي تُوَظّف بكفاءة في جميع مجالات النّشاط المجتمعيّ، لذلك يقول سعاده: المجتمع معرفة والمعرفة قوّة”. والمعرفة الصّحيحة تؤدّي إلى الفهم والحكمة والهِداية وإلى تكوين العقل الإراديّ، المثقّف، والمبدع. والمعرفة نكتسبها من مصادر عدّة أهمّها التّربية والقراءة والإطّلاع الواسع على مبادىء العلم والفلسفة والفنون، والتّعمّق الدّقيق في علم من العلوم ومتابعة تطوراته.
والمعرفة تبدأ بإعمال العقل واستغلاله… والثّقافة، بكونها إلماماً بنواحٍ مختلفة من المعارف، تَحصل بالقراءة الواعية وبالجهد النّفسيّ والفكريّ والمتابعة والتّوغّل في مجاهل الفكر والعلوم. ولا تَحصل بتجميع المعلومات المتفرّقة على أهمّيّتها، بل بطريقة إدخال هذه المعلومات إلى أذهاننا وبكيفيّة تعاملنا معها واستفادتنا منها. وهذا يعني تشغيل العقل واستخدامه بكفاءة باعتماد التّأمّل والتّساؤل والتّرجيح والتّفكير العقلانيّ المنطقيّ والإبداعيّ والنّقديّ وتنقية الأفكار والمعلومات وتحليلها واختيار أصلحها.
وبالرّغم من أنّنا في عصر المعلومات والمعرفة وصناعة الثّقافة، فيمكننا القول أنّ مشهد الثّقافة في مجتمعنا هو مشهد حزين نتيجة تقاعسنا واسترخائنا والأدلّة على ذلك كثيرة منها فقر مراكزنا البحثيّة وكميّة إصدار الكتب عندنا ووضع القراءة الّتي أصبحت متدنّية جدّاً عمّا كانت عليه في السّابق. إن إهمالنا للقراءة والكتاب الثّقافيّ- التّنويريّ والفضول المعرفيّ هو ظاهرة واضحة للعيان. والمجتمع الّذي لا يقرأ ولا يتسلّح بالثّقافة المفيدة وبالمعارف العلميّة – العقلانيّة، هو مجتمع هزيل، يفقد مناعته الرّوحيّة وتهبط فيه مستويات المهارات العقليّة والطّاقات الفكريّة والوعي الثّقافيّ وتنخفض لديه القدرة الإنتاجيّة والإبداعيّة وتنتشر فيه البطالة وضيق الأفق والسّذاجة وتفاهة الاهتمامات. وهو مجتمع جاهل، غير واعٍ لذاته وإمكانيّاته، وعاجز عن التّحرّر والتّطوّر ولا يمتلك إرادة التّقدّم والنّظر إلى المستقبل بأمل وطموح.
لقد أصبحنا مجتمعاً كسولاً، لا يدرك أهمّيّة القراءة وفوائدها الكبرى لحياة المجتمع ودورها المؤثّر في فكر الإنسان وحياته ومعتقداته وسلوكه وفي صقل شخصيته وتكوين عقله ونموّه. وعن علاقة القراءة بالفكر، يقول د. طه حسين وهو المعلّم والأديب المفكّر المؤمن بأهميّة الفكر العقلانيّ العلميّ المستنير: «وما نعرف شيئاً يحقّق للإنسان تفكيره وتعبيره ومدنيّته، كالقراءة، فهي تصوّر التّفكير على أنّه أصل لكلّ ما يُقرأ، وعلى أنّه غاية لكلّ ما يُقرأ. فالكاتب يُفكّر قبل أن يكتب وأثناء كتابته؛ والقارىء يفكر فيما يقرأ أثناء قراءته وبعد أن يقرأ». أمّا عن فوائد القراءة، فهي «ترقّي العقل، وتنقّي الطّبع، وتصفّي الذّوق». فالفرد الّذي يقرأ ينمّي مهاراته الشّخصيّة لحلّ مشاكل حياته وتحسين عمله، فيلقى من التّقدير ما يفتح له أبواب النّجاح. أمّا «الفرد الّذي لا يقرأ»، يقول الدّكتور السّيّد أبو النّجا، فهو «يوقف التّيّار الفكري الّذي يربطه بالعالم، ويحكم على نفسه بالعزلة، وعلى عقله بالجمود، وعلى ملكاته بالتّحجّر».
إنّ القراءة المقرونة بالتّفكير هي السّبيل إلى تنمية الذّهن وتوسيع الفهم والإدراك وتكوين العقل السّليم والارتقاء به، وهي باب الولوج إلى العلم والمعرفة والثّقافة الحقيقيّة وإلى متابعة تيّارات الفكر والإبداع واكتشاف مواهبنا ونفسيّتنا الجميلة وعظمتها… والقراءة، في نظر سعاده، تقودنا إلى «معرفة الحياة الجميلة من الحياة القبيحة»، وتُرشدنا إلى «طريق الخير وطريق العزّ». وكما قال في كلمةٍ له في مدرسة النّاشئة الوطنيّة عام 1948: «إنّ القراءة والكتابة هما واسطة للوصول إلى الخير والعزّ والحياة الجيّدة الحسنة».
والقراءة مَعين لا ينضب للثّقافة ووسيلة نافعة للاكتشاف والتّعلّم والتّقدم. فهي تزيدنا خبرة ومعرفة وتعطينا فرصاً للتّلاقي والتّواصل ولاستكشاف مجالات الحياة وحقائقها وحضارات الأمم وتجاربها وللاطّلاع على شتّى المعارف والعلوم… وكم من العلوم والفلسفات نشأت وتطوّرت نتيجة للاحتكاك الفكريّ بين الأمم… والقراءة تحلّق بنا إلى آفاق بعيدة متخطّية حواجز الزّمن والجغرافيا لتأخذنا إلى أحداث الماضي وتجاربه ومآسي العصور الغابرة ولتقدّم لنا عظماء التّاريخ وأبطاله ولتجمعنا مع النّاس من كلّ الأمم والأجناس والعصور.
ولكن يجب الاعتراف أنّ أجيالنا الحاضرة تبتعد عن الكتاب وممارسة القراءة وتصرف معظم أوقاتها مع الأصدقاء أو أمام الوسائل الإعلاميّة المختلفة أو في أمور هامشيّة وثانويّة أو حتّى لهواً بالألعاب الالكترونيّة وانغماساً في المخدّرات والانحرافات وإشباع الشّهوات. وبسبب ما نواجهه من حروب ومآسيَ وأزمات حياتيّة ولّدت أمراضاً نفسيّة ومشاكل اجتماعيّة عديدة وأدّت إلى انحطاطٍ في أصول التّربية والأخلاق وإلى تخريب أدمغة أجيالنا وتسميم نفوسها «بسموم القضايا الرّجعيّة وروحية الاستسلام للاستعمار»، بات مجتمعنا يُهمل الثّقافة الجادّة بكلّ أشكالها ولا يعتبرها من أولويّاته. لذلك، من الواجب على الأهل تشجيع عادة القراءة عند الأطفال والأحداث وتنمية شغفهم بالمعرفة والاستئناس بها ومساعدتهم على اختيار الكتاب الملائم والمفيد وحثّهم على الاكتشاف والملاحظة والمطالعة في أوقات الفراغ لأنّ الكتاب هو وعاء المعرفة ومصدر رئيسيّ للّثقافة وللتّثقّف الجيّد والتّهذيب وهو لسان ناطق بصمته وخير جليس، كما يقول المتنبّي، وصديق مفيد ووفيّ للإنسان ومعلّم صبور له إذ يعطيه من علمه ويمنحه قيمة حقيقيّة… ويؤكّد علماء التّربية أنّ ما نقرأه ونسمعه ونختبره في الصّغر يُشكّل التّكوين الأوّليّ لثقافتنا وعقولنا. بأيّة حال، إنّ صداقة الكتاب تدوم ولا ترهق وعطاؤها يتجدّد زاداً ومعرفة وخبرة وحكمة وأخلاقاً وقيماً وإلهاماً.
في الختام لا بدّ من التّأكيد على أهميّة الثّقافة في تنوير المجتمع فهي الزّاد الفكريّ والرّوحيّ للجميع. فعسى أن يزيد اهتمامنا بالثّقافة الصّحيحة البانية للإنسان – المجتمع… الثّقافة الّنهضويّة الّتي تحصِّنُ المجتمع وتساهم في ترقيته وتسعى إلى تجويد الحياة والوصول إلى عالم أجمل عنوانه الحريّة والسّلام والخير والحقّ والجمال.
الأمين د.أدمون ملحم – رئيس الندوة الثقافية المركزية