فلاديمير يخرج المارد الصيني من القمقم

فلاديمير يخرج المارد الصيني من القمقم

بعد الحرب العالميّة الثّانية، لم يهدأ العالم، حروب متنقّلة، جلّها في الشّرق الأوسط، من الحروب العربيّة الإسرائيليّة، إلى فيتنام، إلى أفغانستان، إلى حرب العراق الأولى، والثّانية، إلى الحرب السّوريّة وسواها ممّا لم نذكره كثير، وقد كان لكلّ حرب أسبابها وأهدافها وضحاياها، على أنّ أيًّا منها لم تكتسب الأهميّة التي اكتسبتها الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة، وربّما يعود ذلك إلى أنّها تطال بنتائجها المباشرة، وغير المباشرة، إضافة إلى روسيا، أوروبا الّتي شهدت في العقود الأخيرة استقرارًا وازدهارًا جعلا منها ملجأ للهاربين من حروب بلدانهم، فكيف تكون هي الميدان هذه المرّة؟ أو لأنّها، وإن كانت في الظّاهر بين دولتين إلاّ أنّ ملامح العالميّة فيها واضحة جدًّا، فهي تكاد تتّسع لتستقطب كلّ الدول في صراع ينقسم فيه العالم إلى محورين، وبناء على نتائجها إمّا أن يتشكّل عالمُ ما بعد الأحاديّة القطبيّة الّذي قادته أميركا منذ انهيار الاتّحاد السّوفييتي إلى اليوم، وإمّا أن تبقى أميركا سيّدة العالم لعقود قادمة…. 

 هي حرب طالت، وستطال إن استمرّت، العالم كلّه بتداعياتها على جميع المستويات، السياسيّة، والاقتصاديّة، والغذائيّة، والاجتماعيّة… ولا حركة في الأفق تشي بإمكانيّة وضع حدّ لها، فهي وجوديّة بالنّسبة لكلّ أطرافها لا أحد يريد التّنازل، ولا أحد يقدر عليه، وحدها الصّين قدّمت اقتراحًا لوقفها، وهو إن لم يلق الاهتمام المطلوب، فإنّه يبقى خرقًا في الجدار الصّلب، ومن يدري لعلّ هذا الخرق يتّسع ليشكّل فيما بعد أساسًا لحلّ هذه الأزمة العالميّة بامتياز.

قدّمت الصّين اقتراحًا من اثنتي عشرة نقطة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولربّما ما ينطبق على أوكرانيا سينطبق على تايوان فهل كانت الصّين وهي تقدّم نفسها للعالم كطرف قادر على التّدخّل لصنع السّلام العالمي، تعي أنّها قد فرضت على نفسها، من خلال هذه المبادرة، قيودًا فيما يتعلّق بتايوان؟

بطبيعة الحال نعم، والهدف هو أن تنطفئ هذه الحرب التي يمكن لها إن اشتدّ وطيسها أن تطفئ أنوار العالم بلحظة، فروسيا تمتلك أسلحة نوويّة، وهي لن تقبل بالخسارة في حال رأت نفسها في خضمّها، وكذلك الغرب المختبئ خلف أوكرانيا، لا يملك ترف التّراجع أو القبول بنتائج ليست لصالحه، لآنّ ذلك سيعني تراجعًا واندحارًا عالميًّا له، وهو الّذي يرى نفسه في الأصل متراجعًا ومنكفئًا وقد رأينا بأمّ العين كيف انسحبت فرنسا من مالي، تلك الدّولة الإفريقيّة التي أمسكت بزمامها لسنوات طويلة.. إنّ تراجع الغرب في أوكرانيا سيعني تراجعًا عالميًّا له.

دمّرت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة البنية التّحتيّة في أوكرانيا، ورسمت مشاهد خراب وتهجير ستكون بلا شكّ ذات أثر كبير على مستقبل هذا البلد، فمن يدري لعلّ اقتراح الصين المكوّن من اثنتي عشرة نقطة، يشكّل نقطة انطلاق واعدة لإنهاء هذه الحرب الدّمويّة، والقابلة للتّوسّع.

        فما هي هذه النّقاط التي قام عليها الاقتراح الصّيني؟

1- احترام سيادة كلّ الدّول: هل يمكن تحقيق هذه النّقطة في زمن الاستقواء الدّولي الّذي نعيشه؟  وهل يمكن لروسيا المعنيّة المباشرة بهذا الصّراع أن تقبل بالانكفاء احترامًا لسيادة أوكرانيا، في الوقت الّذي قد يشكّل مثل هذا الانكفاء تشريعًا لأبوابها أمام انتهاكات قد لا تقوى على تحمّل تبعاتها؟ والصّين نفسها هل ستلتزم بذلك في حال ذهبت تايوان مذهب أوكرانيا؟ مبدأ جذّاب لكنّه صعب التّطبيق.

2 – التّخلي عن عقليّة الحرب الباردة: لقد انتهت الحرب الباردة بانهيار الاتّحاد السّوفييتي، لكنّ عقليّة هذه الحرب بقيت، إنّ تحقيق هذا الأمر يتطلّب قيام عالم يسوده السّلام، فهل هذا ممكن؟

3- وقف الأعمال العدائية: هل هذا يعني أن تقف الجيوش المتحاربة كلّ في مكانه الّذي وصل إليه من خلال المعارك؟ هل ستقبل أوكرانيا بذلك؟ وهل يمكن أن يتوقّف القتال ويبقى شبح الحرب قائمًا؟؟

4- استئناف محادثات السّلام: نعم ينبغي أن يتمّ ذلك بنوايا صادقة، حيث يقدر كلّ طرف على تفهّم هواجس الآخر، فهل هذا ممكن؟ ولو كان ممكنًا هل كانت هذه الحرب ستقوم أصلاً؟

5- حلّ الأزمة الإنسانية: إنّ حلّ الأزمة الإنسانيّة القائمة سيساهم بلا شكّ في التّخفيف من آثار هذه الحرب وكلّ حرب.

6- حماية المدنيين وأسرى الحرب: فلا يُستهدَف المدنيّون ولا يُقتَل الأسرى.

7- الحفاظ على محطات الطاقة النووية آمنة: هل يمكن إيجاد إطار يحيّد هذه المنشآت؟

8- تقليل المخاطر الاستراتيجيّة: فيُعمَل على حصر تداعيات الحرب في إطار محدّد، فلا تتداعى نحو العالميّة.

9- تسهيل تصدير الحبوب.

10- وقف العقوبات الانفرادية: هذا السّلاح القوي في يد الولايات المتّحدة، هل تقبل برميه؟

11- الحفاظ على استقرار الصناعة وسلاسل التّوريد.

12- تشجيع إعادة الإعمار بعد الصّراع.

هذه هي باختصار بنود المبادرة الصّينية، وقد وصفتها أوكرانيا بأنّها “عامّة”. فبدا هذا التّعليق الأوّلي، الّذي جاء من طرف معنيّ بالحرب بشكل مباشر، سلبيًّا ومن ثمّ فإنّ شبه صمت لفّ المبادَرة الصّينيّة، فالجميع غير مستعدّ لوقف الحرب الآن، ولكن على الرّغم من كلّ ذلك تبقى الصّين الطّرف الوحيد الذي أمكنه أن يكون طرفًا قادرًا على طرح مبادَرة، وهذا أمر يُحسَب لها.

بالمقابل فقد شكّكت الولايات المتّحدة في قدرة الصّين على الالتزام بما طرحته من نقاط في مبادرتها، فهي لن تقبل بتايوان دولة مستقلّة ذات سيادة على حدودها، وهي لن توقف العقوبات الأحاديّة ضدّ بعض الشّخصيّات والكيانات التايوانيّة، كذلك فإنّها لن تُحجم عن استعمال القوّة ضدّها، ومن ثمّ فإنّ الصين التي لم تكن طرفًا في الحرب الباردة التي أدّت إلى انهيار الاتّحاد السّوفييتي في تسعينيّات القرن المنصرم، لكنّها اليوم طرف في حرب باردة مع الولايات المتّحدة، فهل يمكنها الانسحاب والتّراجع.

واقع الحال أنّ الصّراع الرّوسي الأوكراني لم يعد، أو ربّما لم يكن للحظة واحدة صراعًا بين دولتين، فكلّ هذا الزّخم الّذي يقوده الغرب متّحدًا ومتضامنًا ضدّ روسيا، إنّما يشي بأنّ هذا الصّراع ربّما ليس أكبر وأوسع من روسيا، لكنّه بالتّأكيد أكبر بكثير من أوكرانيا، وهي بعد سنة من اندلاعها تتبلور باتّجاه يبدو كارثيًّا لتكون بين روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى.

دعمت الولايات المتحدة الأمريكية وجميع الدول الأوروبية، وتدعم، أوكرانيا من خلال ضخّ مليارات الدولارات على شكل معدّات عسكريّة ومساعدات إنسانية، وهذا ينفي عن الولايات المتّحدة وأوروبا صفة الطّرف المحايد القادر على طرح مبادرات لوقف هذه الحرب.

هكذا فإنّه ليس هنالك سوى الصّين يمكنها أن تؤدّي دور الوسيط القادر على صنع السّلام، سيّما وأن شبح الحرب النّوويّة يذرّ بقرنيه على العالم، ويبدو أنّه ما من طرف قادر على الإمساك بزمام المبادرة سواها،

وفي ذلك دليل قاطع على كون العالم يتغيّر فعلاً وينتقل من الأحاديّة إلى التّعدّديّة، ولربّما أمكننا أن نجد دلائل كثيرة على ذلك، فمن كان ليعتقد مثلاً أنّه يمكن للهند، في هذا الظّرف الّذي يصطفّ فيه الغرب خلف أوكرانيا أن تخالف هذا الاصطفاف وأن تقدّم المساعدة الاقتصاديّة لروسيا عن طريق شراء الخام الروسي بأسعار أرخص بكثير من السوق الدّولية، وأن تعمد إلى إخبار الدّول الغربيّة بقيادة الولايات المتحدّة، وبعبارات واضحة وحازمة أنّ الهند ستقرّر ما هو أفضل للهند، وبالتّالي فإنّها ستستمرّ في شراء الخام الروسي لتلبية طلبها على الطّاقة، على الرغم من العقوبات ومحاولات العزل التي تفرضها الدول الغربيّة على روسيا.

ختاماً، من كان ليظنّ لوهلة أنّه يمكن للصّين أن تدخل في وساطة سياسيّة بين دولتين هما السّعوديّة وإيران، وأن تنجح في لجم العداء بينهما، دون أن نصدّق أنّ العالم بالفعل قد تغيّر، وأنّ الصّين تنتقل من كونها قطبًا اقتصاديًّا فاعلاً في الاقتصاد، محايدًا في السياسة إلى قطب مساهم في صنع السّياسة العالميّة.

أيضاً، من كان ليظنّ لوهلة أنّه يمكن للصّين أن تدخل في وساطة سياسيّة بين دولتين هما روسيا و أوكرانيا. وفي الوقت الّذي تخوض فيه روسيا حربها محتفظة بمسافة بينها وبين الصّين، فإنّها دون شكّ ستكون معها في صنع نظام دولي جديد، يكون أكثر توازنًا، وأكثر عدلاً، هذا ما تحلم به كلّ الشّعوب والقوى التي تأذّت من الأحاديّة التي حكمت العالم لعقود، ويبدو أنّ هذا العالم الجديد أقرب بكثير ممّا يُظنّ.

هناك من يقول أن فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين هو من سهل خروج المارد الصيني من القمقم لينتقل من الدولة المنعزلة سياسياً و عسكرياً الى مارد في وجه الغطرسة الأميركية، لكن هذا المارد لن ينسى أن من اخرجه من القمقم هو القيصر بوتين وسيبقى مخلصاً له.

د. أحمد لقمان الزين
باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية