يعيش العالم فوضى كبيرة لم يعرفها من قبل سوى في فترات تاريخيه طويلة قادت في نهايتها إلى خلق وقائع تاريخية وسياسية واقتصادية جديدة كليًا، كسقوط القسطنطينية مثلًا قبل أكثر من 600 عام، حيث تغيّر العالم القديم الذي استقر وقتها لأكثر من ألف عام منذ نشوء الإمبرطورية الرومانية وسقوطها بشطريها الغربي والشرقيي البيزنطيني، وبدأت الاكتشافات الجغرافية ونشوء الدولة القومية وعصر الاستعمار وبدايه عصر الرأسمالية التجارية.
أثبتت الرأسمالية قدرتها الهائلة على الاستقرار والحيوية والتطور طوال سته قرون واستطاعت أن ترسم وتقود البشرية وفق نموذج تطورها.
قاد الغرب هذه المرحلة التاريخية واكتسب الخبرة والتجربة في التعامل مع الأمم الأخرى، بما يضمن تمامًا سيطرته التامة على تاريخ ومستقبل البشرية، ورتب القواعد الدولية والسياسة والاقتصاد بما يضمن هذه السيطرة، واعتبار أي محاولة للخروج عليها او تعديلها أو تخفيف سيطرة الغرب الاستعماري سببًا للحرب على من يفكر في ذلك.
بعد العصر النووي وامتلاك السلاح النووي، أصبحت الحرب العالمية مستحيلة بين القوى المالكة لأسلحة الدمار الشامل، والتي ستؤدي اذا نشبت لفناء البشرية كلها.
في ظل استحالة الحرب النووية وسقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي في عام ١٩٩٠، بعد سبعين عامًا من محاولة ارساء نظام دولي جديد قائم على هدم النظام الرأسمالي واقامة نظام دولي اكثر عدالة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
انتهت الحرب الباردة بالنصر الحاسم دون إطلاق رصاصة واحد، ولكن الغرب خاف من تلك التجربة، ومع نشوة النصر أدرك أنّ عليه إعادة ترتيب العالم وفق رؤياه، وأن يضمن سيطرته التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية على العالم، وبدأ في تقديم رؤية فاشية وعنصرية ووحشية تجاه شعوب العالم الأخرى، البربرية في طمعها وحسدها لحديقة الغرب الزاهرة كما يعتقدونها.
خطة الغرب كانت طوال الثلاثين عامًا الماضية وما زالت، نشر فوضى عالمية يتمكن من خلالها التدخل المباشر في أي دولة لا تزال تملك طموحًا مشروعًا يرفضه الغرب، عبر الحصار أوالعقوبات الاقتصادية وحتى تمزيقها من الداخل عبر نشر الفوضى في مجتمعات هشة تاريخيًا، لأسباب صنعها الغرب نفسه يضمن عبرها بقاء تلك الدول عرضة للتفجير والتمزيق الدائم.
الغرب الاستعماري يرى في روسيا والصين عدوين محتملين مستقبلا لهيمنة الغرب، واندفع نحو روسيا الأقوى عسكريًا، والأضعف اقتصاديًا من الصين، وتصوّر إمكانيّه خنق روسيا اقتصاديًا وإضعافها، ممّا يمكّن الغرب من تمزيقها من الداخل، دون الحاجة إلى خوض حرب معها بشكل مباشر ووجد في تحريض اوكرانيا لاستفزاز روسيا طوال العشرين سنة الماضية، وتهديد الأمن القومي لروسيا ودفعها لضرب اوكرانيا بحيث تم استغلال اوكرانيا في حرب ضروس ضد روسيا ومحاولة استنزاف عبر حرب طويله، وتقديم كل ما يلزم لها من مال وعتاد يضمن صمودها لأطول فترة ممكنة، أملًا في زيادة مشاكل روسيا الداخلية بسبب تكلفة الحرب البشرية والاقتصادية، مما يمكن أن يمزقها داخليًا ويخلق فرصة مواتية لإحداث ثورة برتقالية تضمن وصول شبيها ليلتسين جديد يعمل على تمزيق روسيا وسيطرة الغرب عليها.
لا يبدو أنّ خطة الانجلو-ساكسون قد تنجح، وإن روسيا تقترب من تنفيذ خطتها العسكرية والسياسية في عمليتها العسكرية الخاصة في وكرانيا، وتعطل المشروع الغربي نهائيًا تجاه روسيا وما سيترتب على ذلك من اتجاه الغرب الى التفاوض المعقّد والطويل مع روسيا على أسس جديدة في العلاقةمعها ودورها العالمي والقبول بعالم متعدد الأقطاب وإنهاء الهيمنة الغربية والاتفاق على قواعد جديدة للاستقرار والأمن الدوليين.
بالتأكيد ستكون مثل تلك المفاوضات غاية في الصعوبة والتعقيد ولسنين طويلة وليس في غرف مغلقه فقط، بل ستلف كل دول العالم والتي ستواجه اوضاعًا صعبة، وسيعمل الغرب على خلق فوضى عالمية، أملًا منه إجهاض أية مكاسب ممكن أن تتسبب في انهاء هيمنة الغرب على النظام الدولي الحالي، وإنشاء نظام دولي جديد قائم على قواعد دولية جديدة تحترم الدول الصغيرة قبل الكبيرة، وتضمن تنميتها وحل مشاكلها المختلفة.
عشنا ولا زلنا نحن شعوب الشرق الأوسط نعيش تلك الفوضى السياسية والاقتصادية التي أشعلها الغرب في المنطقة من الحروب العربية الاسرائيلية، الى حروب الخليج، إلى الثورات الملوّنة التي دمرت سوريا وليبيا والجزائر في عشريتها الدموية، ومصر وحرب اليمن وتدمير لبنان بالعدوان والحصار والعقوبات.
يرى الغرب الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط كقلب للعالم تضمن السيطرة عليه، وبقاء العالم ضمن هيمنة الغرب، وبالتالي لا يمكن للغرب أن يضمن سيطرته على الشرق الأوسط الا في عدم استقراره واستمرار النازعات الداخلية والصراع بين دول المنطقة.
إسرائيل هي أداة الغرب الاولى في تحقيق عدم الاستقرار في المنطقة، وهي تمثل حاملة طائرات للغرب، حتى وان بدأت تفقد قدرتها الهائلة في مواجهة حلف المقاومة الممتد من إيران وحتى غزة، وأصبحت لديه كرهينة في مواجهة خطط الغرب العدوانية تجاه المنطقة وشعوبها، وهذا ما تحدث به السيد حسن نصرالله بصراحة ووضوح في خطابه الاخير.
تضمن وحدة حلف المقاومة وتعظيم قدراته العسكرية أن يفكر الغرب جيدًا قبل شن الحرب والعدوان على الحلف أو أي دولة فيه، وتخلق امكانية لإضعاف العامل الاسرائيلي في الصراع مع الغرب الاستعماري، بل وجعل مهمة الغرب هي الحفاظ على أمن إسرائيل أهم من العدوان العسكري على شعوب المنطقة، وان مثل هذا العدوان ممكن أن يتسبب في إضعاف إسرائيل حتى الزوال، والقضاء على هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني في المنطقة العربية.
يبقى أن يتم حل مشاكل أخرى في المنطقة حتى يتم تحصين المنطقة في مواجهة الغرب الاستعماري وأهمها العلاقه مع إيران وتركيا، والسعي لبناء علاقات متوازنة عربية ايرانيهة وتركيا، قائمة على التهدئة وإرسائها قواعد قائمة على التفاهم والتعاون بما يخدم مصالح جميع دول المنطقة، وتقود السعودية عملة سياسية مهمة تجاه إيران، سيكون من اثارها اذا نجحت أن تدفع إلى استقرار الخليج وإنهاء حرب العدوان على اليمن مما سيمنع امكانية الغرب بالتدخل في هذا الصراع، وتحييده وصولًا إلى دفعه بعيدًا عن المنطقة واضعاف تأثيره السياسي على دول المنطقة.
في أفريقيا تلعب الجزائر دورا بطوليًا وبارزًا في انهاء النفوذ الفرنسي واخراجه من القارة الافريقية بالتعاون مع جنوب أفريقيا كآخر بقايا الفترة الاستعمارية السابقة، وتلعب دورًا بارزًا في حل المشكلة الليبية وإعادة بناء الدولة.
رغم الصعوبات الكبيرة والتآمر الغربي على المنطقة، يمكن ان تتوفر الظروف المواتية لتحقيق استقرار سياسي في المنطقة والبحث الجدي في خطط تحقيق الأمن القومي بما يخدم دول وشعوب المنطقة، بعيدًا عن تأثير سياسة الهيمنة الغربية المنشغلة في صراع كبير مع روسيا والصين، وتملك الفرصة التاريخية لتحقيق الاستقرار للمنطقة كلها وأبعادها عن هيمنة الغرب والانخراط الايجابي في الجهد العالمي لبناء عالم متعدد الاقطاب نستفيد فيه من تنمية المنطقة وحل مشاكل شعوبها الاقتصادية والاجتماعية مع عالم نحتاجه ويحتاجنا في ظل عالم يسير بتفاؤل وصخب وصعوبة نحو تغيير تاريخي مختلف وجديد لم يعشه منذ اكثر من 600 عام.
احمد فاخر