حكمة الرواقيّة العابرة للأزمنة وواقعنا

ما هي الأمور التي يجب أن يبقيها الإنسان دائمًا سرّية ولا يتناولها في كلامه وأحاديثه مع الناس؟ إليكم الدليل الرّواقي للخصوصية:

كان الرواقيّون القدماء يدركون ما يغفله الكثير في مجتمع اليوم وهو الحكمة التالية؛ ليس كل شيء يستحق المشاركة. فقد مارس ماركوس أوريليوس، وإبيكتاتوس، وسينيكا درجة من التحفّظ تحمي سلامهم الداخلي، وتسمح لهم بالتركيز على ما هو جوهري فعلًا. وفي عصرنا المليء بالمبالغة في مشاركة كل شيء على وسائل التواصل الاجتماعي، تبدو حكمتهم حول الخصوصية أكثر أهمية من أيّ وقت مضى.

إن النظرة الرواقية للخصوصية لا تتعلق بالسريّة أو الخداع، بل بحماية طاقتك الذهنيّة، وتجنّب الأحكام غير الضرورية، والحفاظ على حرية تغيير رأيك دون مساءَلة عامّة. فقد أدرك الفلاسفة أن بعض جوانب الحياة تعمل بشكل أفضل عندما تبقى بعيدة عن آراء الآخرين وضغوط المجتمع.

هاكم النصائح التي أجمع الرواقيون على ضرورة الاحتفاظ بها لأنفسنا:

أولا أهدافنا المالية والوضع المادي

كان الرواقيون يرون أن الحديث عن المال قد يسبب مشكلات. فعندما تشارك أهدافك المالية، فإنك تفتح الباب للأحكام، والحسد، والنصائح غير المرغوبة. من يملك أقل قد يشعر بالاستياء، ومن يملك أكثر قد يقلّل من إنجازاتك.

لاحظ سينيكا أنّ استعراض الثروة يجذب الانتباه الخاطئ ويخلق ضغطًا للحفاظ على المظاهر بدل الاهتمام بالازدهار الحقيقي. إن إبقاء وضعك المالي خاصًا يحميك من الحسد ومن الوقوع في فخ الادّعاء لإبهار الآخرين.

ويقول سينيكا: “إن اكتساب الثروة لا ينهي مشكلات الكثيرين، بل يغيّر شكلها فقط.” وهذا ينطبق على استراتيجيات بناء الثروة أيضًا. فعندما تعلن أنك ستستثمر أو ستبدأ مشروعًا، يتحوّل الجميع فجأة إلى خبراء يخبرونك لِمَ ستفشل، وهو ما قد يزعزع ثقتك ويعطل خططك.

ثانيا الأعمال الخيريّة والأفعال الطيّبة

علّم ماركوس أوريليوس أن الفضيلة هي مكافأتها الخاصة. فعندما تنشر أعمالك الطيبة، تتحوّل من نية صادقة إلى عرضٍ ينتظر الإعجاب. يصبح الثناء هو الدافع بدل الخير نفسه، مما يفسد نقاء النيّة.

فقد ركّز الرواقيّون على فعل الخير دون توقّع الاعتراف. فعندما تساعد أحدًا ثم تخبر الجميع، فأنت تبحث عن التقدير بدل تنمية شخصيتك الداخلية.

كما أن الاحتفاظ بالأعمال الطيبة يحمي كرامة من تساعدهم. فمشاركة معاناة الآخرين علنًا تجعل عملك الخيري أشبه بالمعاملة. الكرم الحقيقي يحدث في الخفاء.

ثالثا المشكلات العائليّة والصراعات الشخصيّة

كان إبيكتاتوس يشدّد على التميّيز بين ما نتحكّم به وما لا نتحكّم به. ورغم أنّك لا تستطيع التحكم في مشاكل العائلة، إلا أنك تتحكم فيمن ترويها لهم. ومشاركة خلافات الأسرة علنًا نادرًا ما تُصلح شيئًا، وغالبًا ما تزيد الوضع سوءًا.

عندما تشارك مشكلاتك العائلية، تخلق رواية يصعب تغييرها لاحقًا. سيكوّن الناس آراءً عن عائلتك بناءً على أسوأ لحظاتكم، وتبقى هذه الأحكام حتى بعد المصالحة.

كما أدرك الرواقيّون أن الحديث المتكرر عن المشكلات يعززها في الذهن بدل حلّها. فكلما كررت قصة الخلاف، عشت مشاعره السلبية من جديد.

رابعا الخطوات التالية والخطط المستقبليّة

كان الرواقيّون مفكرين استراتيجيين وأدركوا يقينا أن الخطط تصبح ضعيفة عند إعلانها. فالإعلان المبكر يدعو للأحكام ويجلب تدخّل الآخرين. كما أنّ الحديث عن الأهداف يمنح شعورًا زائفًا بالإنجاز يقلل من الدافع الحقيقي.

نصح سينيكا بالتركيز على الفعل لا الإعلان. فعندما تخبر الجميع بأنك تكتب كتابًا أو تبدأ مشروعًا، فإنك تستدعي الشكوك والإحباطات التي قد تضعف عزيمتك.

إبقاء الخطط سريّة يمنحك حرية تعديلها دون تبرير. وإذا فشلت، فلن تكون هناك “هزيمة علنية” تحتاج لتبريرها. وإذا نجحت، فنتائجك تتحدث عن نفسها.

خامسا الفلسفة الشخصيّة والممارسة الروحيّة

احتفظ ماركوس أوريليوس بتأملاته في دفاتر خاصة لم يقصد نشرها. فقد فهم أن القناعات الشخصيّة عميقة وقد تُساء قراءتها عند مشاركتها مع من لا يفهم سياقها.

عندما تشارك ممارساتك الروحية أو منهجك الفلسفي، قد تواجه حكمًا أو النصائح السمجة وغير المرغوب فيها. قد يسقط الناس مخاوفهم على اختياراتك، أو يحاولون دفعك لتبنّي طريقتهم، مما يربكك ويجعلك تشكّ فيما كان ينفعك حقًا.

النمو الروحي يحدث داخليًا ولا يحتاج لإقرار الآخرين. فإذا كنت تحتاج اعترافهم، فأنت تعمل من دافع الأنا لا من فهم حقيقي.

سادسا الممتلكات والترقيات هي من ضمن نمط الحياة

نظر الرواقيون إلى الممتلكات الماديّة بوصفها أمورًا غير أساسية للسعادة. ومع ذلك، فإن مشاركة كل مشترياتك وتغييرات نمط حياتك تدعو للمقارنة وتخلق ضغطًا للحفاظ على مستوى معيشة قد لا يناسبك.

المبالغة في مشاركة الممتلكات تغذّي رغبة الأنا في الإبهار، وقد تدفعك لشراء ما لا تحتاجه لإرضاء الآخرين، مما يهدد استقرارك المالي.

وقد لاحظ الفلاسفة القدماء أن من يبالغ في استعراض ثروته غالبًا ما يكون الأكثر انعدامًا للأمان بشأنها. الوفرة الحقيقية هادئة وواثقة.

سابعا أسرار الآخرين وخصوصياتهم

علّم إبيكتاتوس أن شخصيتنا تظهر في كيفية تعاملنا مع الآخرين عندما لا يكونون موجودين. فإذا وثق بك أحد بسر، فإن الحفاظ عليه مسألة نزاهة واحترام.

كشف أسرار الآخرين يضرّ بسمعتك أكثر مما يضر بهم. فالناس يلاحظون من يفشي أسرارغيره، ويتجنّبون مشاركته في أمور مهمة.

كما أدرك الرواقيون أن نشر أسرار الناس هو سعي لاكتساب “قيمة اجتماعية” على حساب الآخرين. بينما اكتساب سمعة كشخص يحترم الحدود أثمن بكثير من أي اهتمام عابر.

 وعليه نستنتج التالي: لا تدور الخصوصية عند الرواقيين حول الانعزال أو الغموض، بل حول الحكمة فيما نشارك، وحماية راحة البال من الأحكام غير الضرورية. بواسطة الاحتفاظ بهذه الجوانب الخاصة، تفتح مساحة للنمو الحقيقي، وتبني علاقات أقوى، وتتجنب الدراما الناتجة عن الإفراط في المشاركة.

في عالم يدفعك لإعلان كل تفاصيل حياتك، تصبح الحكمة في التحفّظ قوة استثنائية. فقد أدرك الرواقيّون أن القوّة الحقيقية لا تكمن في إثبات نفسك للجميع، بل في العيش وفق مبادئك… سواء شاهدك أحد أم لا.

المذهل في الفكر الرواقي أنه فكر عابر للزمن ويصلح في كلّ آن. وكان أجدادنا يمارسون هذا الفكر بالفطرة في أمثالهم اليومية كمثل:

خلي سرك بعبّك. وكذلك قول الامام علي بن أبي طالب: سرّك أسيرك فإن تكلّمت به صرت أسيره .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *