امتازت الدولة السورية منذ الجلاء الفرنسي عنها عام 1947 بعدم الاستقرار وتلاحق الانقلابات العسكرية حتى عام 1970 عندما استلم الرئيس الاسبق حفظ الاسد زمام الحكم واحكم قبضته عليه، استطاع الأسد الأب فرض ادارة مركزية عبر قبضة امنية ووضع سوريا عقب حرب 1973 في موقع لا يستطيع أي لاعب في ميدان السياسة الشرق الأوسطية تجاوزها وذلك منذ لقاءاته مع هنري كيسنجر عقب الحرب.
رفعت سوريا شعار التوازن الاستراتيجي الذي اهتز بعنف إثر خروج مصر من دائرة الصراع ودخولها في معاهدة سلام مع دولة الاحتلال عام 1977، فاعتمدت دمشق بشكل كبير على الاتحاد السوفيتي لإقامة هذا التوازن، ولكن الأسد الأب استشعر مبكراً ان الاتحاد السوفياتي يتهاوى فأسرع بنسج علاقاته مع ايران ما بعد الشاه واصطفافه في معسكر جديد مع طهران الأمر الذي حقق له شيء من الردع الاستراتيجي بديلا للتوازن الاستراتيجي.
في الشأن الداخلي غابت الحريات وتسلط حزب واحد على الحياة السياسية وان باسم جبهة وطنية، ولكن استطاع النظام تحقيق كثير من الاستقلال الاقتصادي الموجه من قبل الدولة فاكتفى ذاتياً وصدر إلى الخارج بترول وقمح وشعير وصناعات عديدة ولم يتورط في الاستدانة أو بالارتهان للبنك الدولي وغيره من القتلة الاقتصاديين، هذا وان تغير الوضع بعض الشيء مع الاسد الابن الذي التزم بنصائح مستشاره الدردري بفتح الاسواق والغاء الحماية الوطنية للمنتج المحلي.
في الشأن القومي مارس النظام أدواراً مهمة في الصمود أمام الغرب الامريكي وبالطبع دولة الاحتلال وتصرف باعتباره الدولة السورية المركزية والام في محيطها القومي فكانت له تدخلاته في كامل البيئة القومية أن في العراق أو في فلسطين والاردن ولبنان حيث وجد كثير من الاصدقاء الذين لم يحسن اختيارهم ممن انقلبوا عليه عقب اغتيال رفيق الحريري ثم اثناء الحرب العالمية في سوريا وعليها، فقد سادت ادارته للشأن اللبناني عقليه الاستزلام والربح المادي والفساد، وهو ما ظهر في الداخل الشامي أيضاً حيث كان الحزب وان رفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية الا انه كان واعضائه بعيدين كل البعد عن تلك الشعارات ولم تكن العقيدة البعثية بالنسبة لهم اكثر من قنطرة للوصول للثروة والسلطة والنفوذ شان كل الأنظمة التي قامت على الشمولية والتي ما ان تسقط حتى ترى العقائديين الاكثر تطرفا والتزاما يصبحون اول من ينقلب عليها وعلى العقيدة وهناك كثير من الشواهد منها ما حصل في الاتحاد السوفيتي بعد سقوط الشيوعية أو في العراق في مرحلة ما بعد صدام حسين.
اضعفت الحرب الكونية على سوريا النظام السابق مما اضطره لقبول الدعم والاسناد من الاصدقاء والحلفاء وهو من كان يعطي الدعم والاسناد من قبل، احتلت اراض سورية من جهات خارج الدولة ومن اعداء خارجيين ومن حلفاء تهمهم مصالحهم في الدرجة الاولى لا المصالح السورية التي لا مانع عندهم من المقايضة عليها، ومثلما اخطأ النظام في اختيار اصدقائه في لبنان اخطاء ايضا في اختيار حلفائه الذين ساهم بعضهم بشكل اساسي في اسقاطه.
هكذا سقط النظام المتهم بالديكتاتورية والذي خسر الجولان ولم يستطع تحريرها والذي اتهم بذبح شعبه وجاء النظام الجديد الذي بتر علاقته بكل ما للنظام السابق، فسورية اليوم منهكه تستورد القمح والغذاء يتهددها خطر التشظي و التقسيم، لم يعد الجولان و اسكندرون فقط المحتل من ارضها و انما وصل الاحتلال إلى اطراف دمشق و قبع رجاله في فنادقها، لا سياسة خارجية لها أو حتى داخلية فالمسائل هذه مرتبطة برغبات واوامر تأتيه من الدوحة وانقرة، يرفع النظام شعار الاسلام، و لكنه الاسلام الاتي من مغاور التكفير ذهنيا ومختبرات صنع القيادات التي اشرف عليها السفير الامريكي السابق. ويحظى برعاية تركية قطرية اولا ثم من باقي النظام العربي الابراهيمي، يحقق رئيسه ما يراه فتحا مبينا باعتباره الرئيس السوري الاول الذي يجتاز عتبة البيت الابيض ويتباحث مع الرئيس الامريكي في شؤون سورية واقليمية والمقصود هنا بالإقليمية لبنان حيث ترى واشنطن وحلفائها ان ما كان محظورا على النظام السابق مسموح للحكم الجديد الذي يتأهل للعب دور في نزع سلاح المقاومة، ثم مفاوضات مباشرة مع اسرائيل ويطالبها لا بالانسحاب من الجولان وحدود الرابع من حزيران عام 1967 وانما إلى خطوط الثامن من كانون اول 2024 و هو في طريقه للتطبيع معها، و لعل السعودية تفضل ان تعطيه الفرصة ليسبقها في ذلك.
هكذا اخذت معالم المرحلة الجديدة في سوريانا اشكالا اكثر دقة وذات تفاصيل و جزئيات، في اخر حدثين الاول عند زيارة احمد الشرع الجولاني في واشنطن ولقائهم الرئيس الامريكي وتناوله مواضيع حول اطباق اقليمية لدمشق تشمل كامل سوريا القومية و هو ما تم استعراضه في المقال اعلاه، والثاني في اقرار مجلس الامن مشروع ترامب الذي سبق واعلنه في شرم الشيخ والذي يحول دون حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه لا بل حتى من المشاركة أو ان يكون له راي في مستقبله هذا يؤكد ان المشروع الغربي الامريكي الاسرائيلي لم يتغير من حيث الجوهر فالمراد من هذا القرار في المستوى الكبير السيطرة على حقول الغاز المكتشفة قبالة الساحل الغزي وثانيا تامين طريق الحرير الاسرائيلي الامريكي كطريق سريع وبديل لقناة السويس واخيرا عسكري أو كتفكير نظري.
لم يكن النظام السابق محط اعجاب في كثير من سياساته خاصة الداخلية منها والتي يصعب الدفاع عنها أو تبرير معظمها، وكان الدفاع والتأييد يقتصر على السياسة الخارجية الرافضة للاستسلام والمؤيدة للمقاومة والداعمة لها والمتحدية للمشاريع الامريكية الغربية. كذلك لا يمكن القول ان السلطة الفلسطينية ايضا محط تقدير بسبب عجزها أو عدم رغبتها في القيام بواجباتها ان تجاه حرب الابادة في غزة وان تجاه التغول الاسرائيلي الرسمي و الشعبي في الضفة الغربية، و هذا لم يحصنها من ان تكون هدفا مباشرا لحكومة يمين اليمين في تل ابيب التي لا يريد أي عنوان فلسطيني حتى ولو كان مجاملا و منسقا معها، و هو ما بدا واضحا عند رفض الادارة الامريكية منح تأشيرة لأبي مازن لإلقاء كلمة في الجمعية العمومية و التي القاها لاحقا عبر (فيديو كونفرنس) و جاءت منسجمة مع الرغبات الامريكية- الاسرائيلية. اما النظام الحالي فلا نجد له ما يبرر هوانه امام اعداء سورية، و كيف له ان يكون غير ذلك طالما انهم هم من جاء به.

