السودان وثقافة الميليشيا

أثناء دمجه مفاهيم الوطن والمجتمع، تحت مفاعيل سلطته، أقدم عمر البشير «رئيس» السودان السابق، على تأسيس ميليشيا الدعم السريع، مستفيداً من البنية القبائلية والثقافة الدينية، في تأطيرها كجهة مساعدة على بقاء «الدولة» واستمرارها، في إدارة الاجتماع السوداني، كأمة واحدة، وكما عادة الميليشيات في كل التجارب الحكومية للعالم الثالث، لا تلبث الميليشيا حتى تثب لتأكل الدولة والحكومة والوطن نفسه، ولا استثناء ولا عزاء، للشعوب التي قبلت وصمتت على هذا الخرق التكنولوجي الفيزيائي لمفهوم الدولة التعاقدية، فجميع الدول التي تمليشت بشكل أو بآخر، سقطت في بئر الهوان، لا فرق بين اليافطات التي تعلن عن ميليشيا مهذبة، وأخرى وقحة، فمهما كانت التسمية (حرس ثوري، مخابرات ، قوات خاصة من الجيش، دعم سريع، سريع، حرس قومي، إلخ)، جميعها وبشكل أكيد قوى ملتهمة للدولة، وعلى أساس فكرتها، تقوم ثقافة المجتمع الخاضع لعنفها بما أنها شوكة أو قوة غير مدسترة، وبالتالي لا تخضع لا للمحاسبة الجنائية، ولا للمحاسبة الديموقراطية، وعليه تبرع السودان (وليس عمر البشير!!) سريعاً بثلث أراضيه (دولة جنوب السودان)، للحفاظ على «الدولة» البشيرية التي تحفظ أراضيه، وسقط البشير وقامت دولة مدنية، ما لبثت أن تخلعت بواسطة العنف الميليشاوي، لتسقط بيد العسكر، في ربط مكرر وممجوج بين الديكتاتورية الغبية، والدولة المزيفة. وهكذا استمر عمر البشير ومن وراء القضبان في حكم السودان، وهو ينظر شامتاً إلى شعب أراد دولة حديثة تدير مصالحه، فغرق بدماء أبنائه، دون أن يأسف على خطأه التأسيسي الذي استلهمه من سلفه جعفر نميري، الذي قضى على التحضر عملياً ليترك السودان بين يدي الهمج.

نظرياً لا شيء يحصل في السودان، صراع داخلي، بين فرقاء، يقتلون بعضهم بعضاً، كإعلان عن حرية التعبير، وحماية منجزات الأمة من المعتدين، ( 2000، قتيل بيوم واحد في مدينة صغيرة أسمها الفاشر)، وإذ لا ثأر بين الأخوة، فالمسألة عليها أن تبقى داخلية، و على صاحب الرأي والرؤية، أن يتخذ موقفاً مع أحد أطراف النزاع، وإلا هو ليس إلا مخالف يجب قتله، كما اعتادت ثقافة كل ميليشيات الأرض.

ما الذي يحصل في السودان؟ لا نعرف ولا أحد يعرف الفرق بين دارفور، وكردفان، حلقات الإعدام الميداني تعقد كما حلقات الرقص الشعبي، محددة المستوى الإنساني والحضاري لهؤلاء الأشاوس، الذين استوعبوا بكل مواهبهم العلمية، أن الطلقة تخرج من فوهة البندقية بسرعة معينة فتصطدم برأس الإنسان فتفجره، يا لجلال العلم والتقدم والإنسانية، ومن بعدها يتأوهون من رأي العالم بهم، ويرفعون عقيره بالشكوى والمظلومية، مثبتين ذكاءهم الفائق بفهم عمل الطلقة، دون أن ينتبهوا ولو للحظة إلى فاقتهم المعرفية الكبرى وهي إنسانيتهم، التي أعدمتها الميليشيا، كقوة متوحشة من خارج المسلمات الإنسانية.

هل للعرب بقضهم وقضيضهم من رأي، أو إدانة أو شجب؟! هل للإعلام العربي من دور، أو موقف مما يحصل في السودان (أو غيره)؟! بالطبع لا…. فالذي يستحق الشجب والإدانة، هو الغريب المخالف الذي لم تتح الفرصة حتى الآن لإبادته، فالوقت مملوء بأعمال الثأر والإنتقام، مما لا تقدم عليه دولة حقيقية حتى لو كانت ديكتاتورية.

السودان وما يجري فيه، يكشفنا على حقيقتنا كعرب، فنحن ذوي ثقافة ميليشياوية، لا نعرف طريقاً إلا إنهاء الخصم، وإذا دافع عن نفسه وانتصر نصبح مضطهدين ونطالب الخصم أن يكون إنسانياً معنا، هل هذا هو الواقع؟، نعم إنه الواقع، حتى لو لم نعترف به، وهو نفسه الذي يفسح لأي آخر المجال للاعتداء علينا، مستخدماً ثقافتنا ضدنا، فالثقافة الميلشياوية، تعتقد أن صلاحياتها في اتجاه واحد، وعندما يأتي أحدهم يريد تطبيق ثقافتها نفسها عليها، تبكي وتتوسل، وتتسائل عن حقوق الإنسان والحق في الكرامة.

في السودان هناك ذهنية ميلشياوية متوزعة على الدعم السريع، والجيش السوداني، وحكام المناطق المافياويون، والناس جميعاً مجرد رهائن لديهم جميعا، يصرفون من خزانهم قدر ما يشاؤون، أوليس في ذلك دعوة إلى الفناء عن طريق إبادة الذات؟.

بالنظر إلى مجازر الفاشر (كمثال بسيط وسيتكرر)، كيف سيتم محاسبة المسؤلين عنها؟ في ظل عدم وجود شرعة قانونية؟، بالتأكيد سيتم ذلك الحساب، بثأر مقابل، أو إبادة مقابلة، حيث يستوي الطرفان (أو الأطراف) في حسابات الثقافة الإنسانية.

ليس لثقافة الميليشا في هذا العصر والأوان، من توصيف، إلا بوصفها ثقافة تدعو إلى التهمج، دون غض النظر عن المظلوميات، التي تتحول إلى كذبات قميئة، عند البدء بالثأر، أو بمعاقبة الفاعل، لإنها وببساطة ليست دولة، بل هي عكس الدولة، ولن تنتهي بسببها الخروقات والمظلوميات، كمتواليات تعيث بالأرواح غدراً. والوطن يصبح كذبة، تماماً مثل شعارات المتسلطين.