في المقال السابق تناولنا نتاج ادونيس في الشعر والتي رصدها الكاتب د سليم مجاعص في كتابه «ادونيس في الحزب القومي دراسة توثيقية» ونتابع في هذا الجزء متابعة كتاباته النثرية في الفترة نفسها.
. نشر أدونيس بعض أعماله النثرية بأسماء مستعارة وتُعدّد خالدة سعيدة بعضا منها مثل «عائدة أسمر» و«أميمة الكاظمي»، وقد بلغت هذه المقالات ما لا يقل عن 30 مقالة، نشرها على صفحات «الجيل الجديد» بين 1951 و1952 تحت أسماء مختلفة.
. من أول المواضيع التي كتب فيها أدونيس نثرًا تحت اسمه الأساسي موضوع المرأة، فتحت عنوان «المرأة في أدبنا المعاصر» يكتب مقالة نُشرت أولًا في مجلة «عصا الجنة» في 18 آب 1951، يستعرض صورة المرأة في الأدب السوري المعاصر الذي يراها جسدًا يموج بالفتنة، ويتلهّى بالإغراء، ويتفنّن بالتجميل. ويسأل مَن مِن الأدباء: من رأى في المرأة «زنوبيا» تفتح بصدرها وجراحها وآلامها… طريق النصر والحياة لأمتها وبلادها؟ مَن منهم رأى فيها «أليسار» تؤسس إمبراطورية، شغلت العالم، وكانت دفقًا دائمًا من البطولة والفتح؟ … مَن منهم رأى فيها «سميراميس» تقيم صرحًا ضخمًا، لمملكة… كان كل ما فيها خيرًا وحقًا وجمالًا؟ … مَن منهم رأى فيها «أناة» تجسيدًا حيًا لقوى الخير… تناضل الشر، فتصرعه وتسحقه… وتعلّم الإنسان كيف يناضل الشر، فيصرعه ويسحقه؟«. ويعلن أدونيس ضرورة نظرة مغايرة. وهو يتبع في ذلك «الصراع الفكري في الأدب السوري»، حيث يرفض سعاده الحب في صوره الوحشية البدائية الغريزية، ويدعو إلى الحب المتسامي.
وينشر أدونيس على صفحات «الجيل الجديد»، تحت اسمه المعتاد، سلسلة مقالات بعنوان «في الأدب السوري». يتناول فيها ضلعًا أساسيًا من تعاليم النهضة السورية القومية، أي إعلان الحقيقة السورية، حقيقة الأمة السورية وتاريخها وثقافتها ومآتيها. وإعلان هذه الحقيقة هو الموضوع الأول المتوجّب على مثقّفي النهضة القومية الاهتمام به.
في المقال الأول من هذه السلسلة يصف أدونيس المفارقة بين أثر الأدب السوري على الحضارة الإنسانية، ومعرفة الإنسانية بمصدر هذا الزخم الثقافي: قصة الأدب السوري، الينبوع الذي تفجّر جداول خيّرة، ملأت العالم خصبًا وحياة.. فنحن لا نجد في تاريخ الأدب إشارة إلى الأدب السوري. فالشخصية السورية منعدمة في نظر مؤرّخي الأدب. ويؤكد:«التاريخ اليوم بحاجة إلى أن يُكتب من جديد. لن تكون أثينا، بعد الآن، المكان الذي يبدأ منه الفكر، فهي ابنة أور ونفر. ولن يكون هومير، بعد الآن، الدرب الجميلة للأدب، فهومير ربيب جلقامش في أعظم تراث أدبي عرفه العالم القديم. ولن يكون، بعد الآن، سليمان أو يعقوب أو إرميا، المصابيح الأولى في الأدب، فهؤلاء تلاميذ سومر وبابل وأوغاريت. عندما كان الأدب، في سورية، يدور على الشفاه ملاحم وأساطير وقصائد وأغنيات، كانت اليونان طفلًا يحبو، ولم تكن التوراة قد خُلقت بعد».
ويحدد أدونيس دور الحركة القومية في إيضاح هذه الحقيقة. إننا نعيش في عصر الحركة القومية الاجتماعية التي كشفت عن حقيقة سورية، فكشفت عن التاريخ الحقيقي، وجسّدت سورية فنًا وعلمًا وفلسفة، فكثّفت الزمن فيما نسميه اليوم عصرها.
إنّ أصالة الحركة القومية الاجتماعية هي في أنها كذلك. هي في أنها كشف عن الحقيقة، وتكثيف للزمن. وعلى هذا الأساس يختار أدونيس أن يقوم بواجبه في زاوية الشؤون الثقافية من جريدة «الجيل الجديد»، كما يقوم أقرانه ورفقاؤه بمثل هذا الدور في الجريدة عينها وفي الندوة الثقافية.
ويملأ أدونيس، وغيره من الكتّاب القوميين، صفحات «الجيل الجديد» في ربيع 1952 بالكثير من ترجماتهم للأساطير السورية، وتأمّلاتهم في خطوط الفكر السوري عبر التاريخ، وتلخيصهم لمآتي الثقافة السورية في كافة المجالات الشعرية، الموسيقية، الفلسفية، الأسطورية والأدبية.
ففي باب الأساطير قامت «الرفيقة أميمة الكاظمي» بترجمة أربع أساطير. الأولى، تخبر قصة التخلّص من التنين «لابو». والثانية تتحدث عن اختيار الآلهة إنانا زوجًا لها. والثالثة عنوانها «إلى نفر». ونفر هو الاسم الحالي لمدينة نيبور Nippur التي كانت مركزًا دينيًا هامًا، والرابعة عنوانها «سفينة السماء». وهي تُعرف في المصادر المسمارية باسم «إنانا وإنكي»،
ونجد قلم «الرفيقة أميمة الكاظمي» يخطّ كتابات وجدانية مرتبطة بالعقيدة القومية الاجتماعية. ففي مقالة «روّعتهم الزوبعة!: يختم:»ألا بوركت الزوبعة المروّعة… وبورك عنفها وجبروتها… فتباركت الزوبعة… وتبارك أبناء الزوبعة!«. وفي مقالات تالية بعنوان «الأشجار الصفراء»، «هذا العام الجديد»، «دروب المنابع الخضر»، «من الآفاق البعيدة»، يقوم أدونيس بلسان «الرفيقة أميمة الكاظمي» بالتعبير الوجداني الحار، فيتحدث عن سورية وإيمانه بها، وعمله في صفوف الحركة القومية في سبيل نهضتها وعزّها.
وتحت إمضاء «الرفيقة عائدة أسمر»، يتناول أدونيس مواضيع النقد الأدبي والفني. وعندما يكتب الدكتور عبد العزيز عبد المجيد مقالة يزعم فيها أنّ أول ظهور للحوار في الأدب العالمي ظهر على يد كاتبين من صقلية، فيقوم أدونيس بتذكيره أنّ الحوار في الأدب بدأ في سورية في ملحمة جلقامش، وغيرها من الملاحم والأساطير. وتحت باب أعلام الفكر السوري، يقدّم أدونيس عرضًا لحياة وأعمال فرنسيس المرّاش ثم يكتب أدونيس مقالتين عن ابن الرومي وشعره. متابعًا في ذلك ما قاله سعاده عن ديك الجن الحمصي، وأبي العلاء المعري، وينشر أدونيس أيضًا، تحت إمضاء «عائدة أسمر»، نصًا غنائيًا شاعريًا عن «جوليا… بنت الشمس»، أي جولا دومنا، الأميرة السورية التي تزوجت من سبتيموس سفيروس، ودشّنت عهد الأباطرة السوريين على عرش روما. والمقالة بمثابة تدوينات وجدانية بقلم جوليا، وخواطرها، وتعليلها لمراحل حياتها.
السؤال الهام ما أثر كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» على رؤية أدونيس للأدب والشعر والحداثة؟
حول علاقته مع يوسف الخال ومجلة «شعر». يقول «لم نكن فكريًا وسياسيًا، متفقين تمامًا. كان هو قد تخلّى عن السير في الأفق الذي فتحه أنطون سعاده، دون أن يتخلّى عن المنحى الحضاري والاجتماعي في فكره. وكنت أنا منخرطًا في هذا الأفق كليًا، وبخاصة في أبعاده الحضارية». وكان بين أعضاء فريق مجلة «شعر» تماثل في الرؤية يتوافق تمامًا مع ما قدّمه سعاده في كتاب «الصراع الفكري» و«عندما صدر العدد الأول من مجلة شعر»، شتاء 1957، كان الذين هيّئوا لهذه المجلة، وشاركوا في التخطيط لها، وفي مقدمتهم يوسف الخال، يؤسّسون بوعي كامل لمرحلة جديدة في الشعر العربي، مفهومات وطرائق تعبير. وكان قد استقرّ في نفوسهم بالبحث والتأمُّل والممارسة، أنّ مسألة التجديد في الشعر تتجاوز الخروج عن النسق التفعيلي الخليليّ، وأنًّ التجديد هو قبل كل شيء تجديد في النظرة، وأنه مرتبط بموقفٍ جديدٍ شاملٍ وجذريّ من الإنسان والوجود، يعمّقه الاطلاع والتفاعل، وتهذّبه الحياة والخبرة.
ويؤكد هذا التلاقي صراحةً: «ما قاله أنطون سعاده في كتابه» «الصراع الفكري في الأدب السوري» في الأربعينات حول معنى التجديد، وأعاد صياغته يوسف الخال، مبدأ من المبادئ العشرة التي وضعها منطلقات ومعايير للحداثة الشعرية العربية، ثم يتحدث أدونيس كيف أنّ نظرة سعاده الثقافية وسّعت آفاق التراث لكي يمتد إلى ما قبل الفتح العربي ليشمل الموروث السومري ـ البابلي ـ الكنعاني ـ الآرامي كاستمرارٍ حيّ يرمي إلى خمسة آلاف سنة. ويتناول بعد ذلك رؤية سعاده للتجديد في الأدب، أي مسألة الحداثة التي تحتل في نتاج أدونيس نفسه موقعًا محوريًا.
. وقبل ان يختم كتابه يقول د مجاعص:«عرضنا أعلاه بعض ما صمت عنه الشاعر، ومن العدل أن نعرض بعض ما أفصح عنه. ثم يختم كتابه بالخلاصتين التالييتن:
- في العلاقة بين أدونيس والحركة السورية القومية صمتٌ وإفصاح، إقبالٌ وإحجام. وأسباب الصمت، وعوامل الإفصاح من خصوصيات الشاعر وتشابك الحياة الحزبية، وهذه جميعها لا تعنينا.
- ما أردنا تقريره في هذا البحث هو أنّ جذور العمارة الفكرية ـ الشعرية التي عمل عليها الشاعر تغذّت، وربما لا تزال تتغذّى، من نسغ الحياة الجديدة التي أطلقها في سورية مولود الأول من آذار!”

